هلع في بغداد. الشوارع خالية. طلائع المسلحين على مسافة 20 كيلومتراً من عاصمة الرشيد. قوات شعبية باشرت الدولة بتسليحها ترابط على تخومها لحماية أهلها من «الدواعش». والعيون على ديالى، بوابة الجنوب التي تلامس حدود إيران. لا جيش ولا أمن ولا من يحزنون، إلا في المنطقة الخضراء. وحتى ولاء هؤلاء بات موضع تساؤل، بعدما تأكد انقلاب ضباط كبار على الحكم القائم وتسليم مناطقهم العسكرية للقادمين الجدد.
انكشف الوضع إلى حد خرج فيه نوري المالكي بنفسه يخاطب ضباط(ه) عبر شاشة التلفزيون، في ظل تقارير أمنية تتحدث عن أن المهاجمين ليسوا سوى مجموعات بعثية من جماعة عزت إبراهيم الدوري وضباط من الجيش العراقي السابق ومن فدائيي صدام. بل أكثر من ذلك. تقول التقارير نفسها إن أكثر من 40 ضابطاً، سبق أن خدموا في جيش صدام حسين، تآمروا مع المهاجمين. حكايات خيانة تطاول كبار القادة العسكريين، يتقدمهم الفريق الأول الركن عبود كنبر والفريق أول الركن علي غيدان والفريق الركن مهدي الغراوي، وهم من منتسبي الجيش السابق.
بات الحل الوحيد تشكيل «جيش شعبي» بدأت حملة التطوع فيه. تنظيم يحاكي قوات الدفاع الوطني في سوريا. عودة إلى الأمن الذاتي الذي انتشر في أعقاب الغزو الأميركي. اعتراف بعدم وجود جيش وأسئلة من نوع أين ذهبت 41 مليار دولار يفترض أنها أُنفقت على مدى السنوات الثلاث الماضية على تعزيز المؤسسة العسكرية. كلها مقدمات لتبرير حكاية أشبه بالخيال: نجح ما لا يتجاوز 1500 مقاتل من «داعش»، خلال ساعات معدودات، في احتلال الموصل، حيث ترابط حامية عسكرية من 52 ألف جندي، قبل أن يجتاحوا صلاح الدين ويسيطروا على العديد من أحياء كركوك. حتى سامراء، يتفق الجميع على أنها ساقطة عسكرياً، وأن التكفيريين لم يدخلوها بفعل العجز، بل بفعل عدم الرغبة. الوحدات العسكرية تهرب من مواقعها كلما تقدم المسلحون، وأوامر لقوات الأمن بالانسحاب من المدن.
في وضع كهذا، غابت السياسة وأخليت الساحة للميدان. موقف الأكراد لافت في هذا السياق. مناشدات صدرت عن أكثر من جهة لقوات البشمركة للمشاركة في التصدي للقوات الغازية. الجواب جاء مراراً بالرفض: لا نحمي سوى المناطق الكردية والمناطق المختلطة. يقال إن ضغوطاً أميركية كبيرة مورست على أربيل في هذا الشأن، أثمرت تفاهماً بين المالكي ونيجرفان البرزاني على تدخل وحدات من البشمركة في معركة استعادة الموصل في مقابل الموافقة على تصدير آمن للنفط من كردستان.
على الجانب الآخر، هناك في المناطق «المحتلة»، لا يبدو الوضع بالسوء الذي تتحدث فيه بعض وسائل الإعلام. القيادات المنخرطة في العملية السياسية العراقية كلها غادرت مناطق «داعش» يتقدمهم محافظ نينوى اثيل النجيفي، الأخ الأكثر نفوذاً من أسامة، الذي انتقل إلى أربيل، مخلفاً مصالح بمئات ملايين الدولارات في الموصل. وصحيح أن عشرات الآلاف نزحوا من منازلهم خوفاً مما يجري ومما هو آتٍ، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن سنوات من التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مرفقة بتحجيم لقياداتهم من رموز الحكم في بغداد، كافية لتؤمن لـ«داعش» وأي فصيل آخر ينتفض على قادة بغداد، حاضنة شعبية، من الأفراد والعشائر، حتى ولو كانت مؤقتة.
وكان لافتاً يوم أمس تحميل المرجع بشير النجفي «ما وصلنا إليه في العراق اليوم» إلى «عدم كفاءة وتقصير المتصدين في حق الوطن»، داعياً إلى «الإسراع في تشكيل حكومة مخلصة واعية تحمل بين جوانحها حب الوطن والإخلاص». إشارة هي الأولى من نوعها للصدام السياسي القائم في العراق مذ سقوط الموصل، وسيطرة أزيز الرصاص على الساحة السياسية في البلاد.
واقع يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات: ماذا ستكون عليه تداعيات دعوة مرجعية النجف إلى التوحد في مواجهة الإرهابيين؟ إلى أي مدى ستتسع حملة التطويع التي فُتحت على مصراعيها لكل من يريد مقاتلة التكفيريين وحماية المقدسات؟ إلى أي مدى أسهمت أو تسهم السعودية في دعم «داعش»؟ خطف القنصل التركي حادث لافت. ما هو دور تركيا في ما يجري، هي التي سارعت إلى استنفار حلف شمالي الأطلسي لبحث التطورات؟ ما انعكاسات «انتصارات» داعش في الميدان العراقي على الجبهة السورية مع ما حملته من غنائم مالية وعسكرية من بلاد الرافدين؟ هل سيستعيد العراق الأيام السوداء للحرب المذهبية المشؤومة التي أشعلت المنطقة؟