دمشق | عندما اتّخذت «جامعة الدول العربية»، خلال قمّتها التي عُقدت في الدوحة في تشرين الثاني 2011، القرار بتعليق عضوية سوريا فيها، بعد موافقة 18 دولة على ذلك، واعتراض ثلاث دول هي سوريا نفسها ولبنان واليمن، وامتناع العراق عن التصويت، لم يكن القرار فعلياً يهدف إلى استعمال هذه الورقة للضغط على الحكومة السورية التي اتُّهمت حينها بتجاهل قرارات الجامعة، وإنّما رمى إلى التحضير لمرحلة جديدة، نتيجة توقّعات البعض وآمالهم باقتراب موعد سقوط النظام. آنذاك، امتلكت السعودية وقطر أدوات ضغط كبيرة وفعّالة على الجامعة، في ظلّ تراجُع الدور المصري نتيجة التحوّلات الداخلية التي شهدتها مصر يومها، وانشغال المغرب العربي بشكل كامل برياح «الربيع العربي»، الأمر الذي وفّر للدولتَين الخليجيتَين فرصة لزيادة نفوذهما، وبشكل خاصّ قطر، التي استثمرت فترة حُكم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي لم يعادِ تيّار «الإخوان المسلمين»، ومتّن علاقته مع الدوحة.خلال تلك الفترة، تمكّنت قطر على وجه التحديد، من إقناع المجتمع العربي المضطرب باتّخاذ هذا القرار، باعتباره سيمهّد لمرحلة بناء نظام حُكم جديد في سوريا، خصوصاً أنه ترافَق مع تزايد تسليح الفصائل المعارِضة في جنوب البلاد ووسطها وشمالها، وفتْح تركيا حدودها أمام فصائل عديدة، ضمن خطّة هدفت إلى تضييق الخناق على الحكومة، وتوسيع رقعة سيطرة المعارَضة، بما يؤمّن للأخيرة تمثيلاً سياسياً تستطيع عَبْره إزاحة النظام من المحافل الدولية، التي كانت «الجامعة العربية» تمثّل بوابة إليها، في سيناريو يحاكي تقريباً السيناريو الليبي. في ذلك الاجتماع، دارت نقاشات عديدة حول آلية التصويت، ما بين أن يكون بالإجماع وفق المادة 18 من الميثاق، والذي ينصّ على أن «لمجلس الجامعة أن يعتبر أيّ دولة لا تقوم بواجبات الميثاق، منفصلة عن الجامعة، وذلك بقرار يُصدره بإجماع الدول عدا الدولة المُشار إليها»، الأمر الذي لم يكن ممكناً في ظلّ اعتراض لبنان واليمن وامتناع العراق عن التصويت، أو أن يكون بالأغلبية، وهو ما تمّ اعتماده فعلاً في نهاية المطاف.
بعد نحو عام ونصف عام على تجميد عضوية سوريا، وما تخلّل تلك الفترة من تمدُّد للفصائل المسلّحة في مناطق واسعة، بادرت الدوحة إلى خطوتها الثانية، عبر تسليم المقعد السوري في الجامعة، خلال القمّة العربية الـ24 في العاصمة القطرية، لـ»الائتلاف المعارض» الذي كان يرأسه حينها معاذ الخطيب، وذلك وسط حضور قادة 16 دولة عربية، وغياب قادة 6 دول. على أن تلك الخطوة لم تحقّق، في ظلّ استمرار المعارك ورفْض المؤسّسات والمنظّمات الدولية الاعتراف بقرار الجامعة (حافظت سوريا على مقعدها في الأمم المتحدة، فيما اعتبر الاتحاد الأوروبي أمر تسلّم المعارضة المقعد شأناً داخلياً لا علاقة له به)، الخرق الدولي المرجوّ منها، وهو ما يفسّر الإحجام عن تكرارها لاحقاً، ليبقى مقعد سوريا فارغاً.
ثمّة مؤّشرات إلى وجود انفراجة سياسية في العلاقات السورية – السعودية


اليوم، وبعد مرور أكثر من عقد على القرار، تجد الجامعة العربية نفسها في موقف محرج، في ظلّ استعادة الحكومة السورية السيطرة على معظم مناطق البلاد من جهة، وفشل التجمّعات والهيئات المعارِضة التي تشكّلت خلال السنوات العشر الماضية في تحقيق أيّ حضور سياسي فعلي، في ظلّ حالة الانقسام الكبيرة في صفوفها، وانفصالها عن القوى المسيطِرة على الأرض. ولعلّ الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيظ، عبّر بوضوح عن ذلك الحرج، عقب لقائه ملك الأردن عبدالله الثاني قبل أيام، بالقول إنه «كانت هناك تصرّفات كثيرة غير موفّقة من قِبَل بعض الدول العربية، وأحياناً رؤى مضطربة أدّت إلى هذا الوضع... وكانت هناك إحالات إلى مجلس الأمن وإلى الأمم المتحدة بشكل لا ينبغي أن يكون، ولن أزيد على ذلك».
أبو الغيط، الذي أعلن أيضاً من عمّان عن اجتماع تشاوري في التاسع من آذار المقبل للبحث في الموعد الذي اقترحته الجزائر للقمّة التي ستستضيفها، والتي تمّ تأجيلها لأسباب عديدة أبرزها وباء «كورونا» والخلافات الجزائرية - المغربية، أوضح أن الاجتماع سيبحث مسألة عودة سوريا إلى مقعدها، معتبراً أنه «إذا ما وقع تشاور بين الدول الأعضاء على منهج محدّد، وإذا ما توافقوا على التحدُّث إلى الحُكم في سوريا، وقيام الحُكم في المقابل بالتجاوب مع المواقف العربية المطروحة، عندئذ أتصوّر أنه لن يكون هناك ما يمنع عودتها». وفي إجاباته على الأسئلة المتعلّقة بشكل العودة وآلياتها، كرّر أبو الغيط الحديث عن ضرورة التوافق، لافتاً إلى أن «ثمّة دولاً تُعارض صراحة هذه الخطوة، ودولاً أخرى تقول لنتفاعلْ مع الحُكم في سوريا ونرَ الحدود التي يتجاوب فيها مع مطالبنا».
وتأتي تصريحات الأمين العام للجامعة في وقت يتمّ فيه العمل عبر مسارات سياسية عدّة متوازية ومتكاملة، تتولّاها روسيا والإمارات وسلطنة عُمان، بهدف التوطئة لعودة العلاقات السورية – السعودية أوّلاً، لما تحمله هذه العودة من تأثير كبير على المنطقة، وهو ما تدعمه أيضاً مصر والجزائر والأردن والعراق. وفي هذا السبيل، تدور في الكواليس السياسية محادثات عديدة لوضع أرضيّة لحلّ القضايا الخلافية بين دمشق والرياض، التي ترمي الكُرة في الملعب السوري، وتطالب الأولى بخطوات في ملفّات عدّة، أبرزها الوجود الإيراني، ووجود «حزب الله»، بينما تدعو سوريا إلى «وضْع أسس لمنهجية العلاقات السياسية، وإجراء حوارات عقلانية مبنيّة على مصالح الشعوب»، الأمر الذي شدّد عليه خصوصاً الرئيس بشار الأسد، خلال استقباله قبل أيام وزير خارجية عُمان بدر بن حمد البوسعيدي، حيث اعتبر أن «التعامل مع المتغيّرات في الواقع العربي يتطلّب تغيير المقاربة السياسية، والتفكير انطلاقاً من مصالحنا وموقعنا على الساحة الدولية».
ولعلّ ما سبق، يمكن أن يشرح الموقف الذي سجّله وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، قبل نحو أسبوعين، بانتقاده الجامعة العربية، واعتباره، خلال حديثه إلى وسائل إعلام سورية، أن العلاقات السورية مع الدول العربية أكثر أهمية من العودة إلى الجامعة، التي قال إنها «لم تُحقّق أياً من أهدافها»، الأمر الذي تمّت ترجمته فعلياً عبر رسالة بعث بها المقداد إلى نظرائه في عدد من الدول العربية، تتحدّث عن ضرورة إرساء «نهج جديد» في العلاقات، وتجاوُز الخلافات التي وصَفها بأنها «طارئة وظرفية».
بشكل عام، ثمّة مؤشّرات إلى وجود انفراجة سياسية في العلاقات السورية – السعودية، من بينها زيارة الوزير العماني لدمشق، بعد يوم واحد من الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب في الكويت، وما سبقها من زيارات عدّة لمسؤولين تنقّلوا بين دمشق والرياض، أبرزهم المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، الذي عبّر عن «ارتياح بلاده للمؤشّرات التي تدلّ على عودة سوريا للعِب دورها المهمّ على الساحة العربية، والتي أتت نتيجةً لانتصارات سوريا وإرادة شعبها في الدفاع عن أرضه وإعادة إعمار بلده». وعلى خطّ موازٍ، تجري دراسة آلية العودة، وما إذا كانت ستتمّ عبر موافقة جميع الأعضاء، أم عبر اعتماد مبدأ الأغلبية، وكذلك مَن سيحضر القمّة، ومَن سيشارك في التصويت، خصوصاً أن الميثاق الداخلي للجامعة التي تُعتبر دمشق أحد مؤسّسيها، يَعتبر القمّة منعقدة في حال مشاركة ثلثَي الأعضاء، وفق المادّة السابعة منه، في حين لا يحدّد بشكل واضح آليات التصويت في مثل هذه الحالات.
إزاء ما تَقدّم، يمكن القول إن الوصول إلى توافق سوري – سعودي، سيعني، في ظلّ الانفتاح السوري على الإمارات ورغبة الجزائر ومصر والعراق والأردن بعودة سوريا إلى مقعدها، إمكانية إيجاد صيغة لتجاوُز الموقف القطري، المتسلّح، من جهة، بالموقف الأميركي الرافض للانفتاح العربي على دمشق، ومن جهة أخرى بالسياسة التي يتبنّاها الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يُعتبر أحد أبرز مهندسي السياسة الأميركية خلال فترة حُكم باراك أوباما التي شغل خلالها منصب نائب للرئيس، وتقلّد وساماً عن دوره في تلك الفترة، التي ازدهر خلالها نشاط «الإخوان المسلمين»، وشهد العالم العربي موجة كبيرة من التغيّرات والتقلّبات والفوضى.