الخرطوم | تصطدم مشاريع الحلول المطروحة لحلّ الأزمة السياسية في السودان، بتمترس كلٍّ من طرفَيها خلف مواقفه. إذ تتمسّك القوى الرافضة للانقلاب بلاءاتها الثلاث: «لا تفاوض، لا شراكة، لا مساومة» مع العسكر، مُطالِبةً بعودة الأخير إلى ثكناته، وإفساح المجال أمام القوى المدنية لقيادة البلاد. في المقابل، يرفض العسكر ومؤيّدوهم أيّ حلّ دبلوماسي لا يكونون هم جزءاً منه، مراهِنين على عاملَي القوّة والزمن لتدعيم أركان سلطتهم وتثبيتها، مستعينين في ذلك برموز نظام عمر البشير من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني».وعلى رغم مضيّ 3 أشهر على انقلاب 25 تشرين الأول، إلّا أن الشارع المعارض لم تَخِر قِواه بعد، حيث يُواصل تسجيل حضوره المناوئ للسلطة القائمة، على رغم العنف المفرط بحقّه من قِبَل القوّات الأمنية. وبدا لافتاً، في الفترة الماضية، صعود قوى جديدة إلى قيادة الحراك، مقابل تراجُع الأحزاب السياسية التقليدية، التي وجدت نفسها مرغمة على الانقياد خلف «لجان المقاومة»، ولا سيما أن الأخيرة تلقي باللوم عليها لتفريطها بالمكاسب التي حقّقتها الانتفاضة، وعدم تعاملها بالحسم اللازم مع رموز النظام السابق، إلى جانب تهاونها في ملفّات رئيسة مع المكوّن العسكري، على رغم كون تلك الملفّات تقع في صميم مهامّ الحكومة الانتقالية، وفق الوثيقة الدستورية. ويُسجَّل، هنا، لـ»لجان المقاومة» استفادتها من السنوات الثلاث الماضية التي أعقبت الإطاحة بنظام عمر البشير، في تنظيم صفوفها وتوحيدها، ما أهّلها لقيادة الحراك، توازياً مع استعدادها حالياً لإعلان ميثاق موحّد في ما بينها، في العاصمة والولايات الأخرى.
في المقابل، فشلت بقيّة القوى السياسية والمدنية في التوحّد على ميثاق لمناهضة الانقلاب وإسقاطه وإدارة المرحلة التالية لذلك. ويأتي على رأس تلك القوى الفريق الذي يضمّ «تجمّع المهنيين» و»الحزب الشيوعي»، والذي يرى أن الوقت الآن ليس لوضْع ميثاق من هذا النوع - على رغم إقراره بأهمّيته -، وأن الأولوية في هذه المرحلة يجب أن تكون لإبقاء الحضور في الشارع. ويتّهم الفريق المذكور، «قوى الحرية والتغيير»، بأنها تسعى «لاختطاف الثورة» للمرّة الثانية، وأنها تتبنّى «خطّ الهبوط الناعم»، على اعتبار أن رؤية بعض مكوّناتها للحلّ المطلوب لا تستبعد العسكر كلّياً من المشهد السياسي، بل تشترط فقط استبدال القادة العسكريين الخمسة المتواجدين في «مجلس السيادة» حالياً، وهو ما ترفضه «القوى الثورية».
لا يزال المكوّن العسكري يلعب على كسب مزيد من الوقت لتثبيت سلطته


على الجانب الآخر، لا تبدو المؤسسة العسكرية أفضل حالاً من المعارضة المشتَّتة؛ إذ يُسجَّل غياب التوافق في ما بين أقطابها على خلفيّة التلكّؤ في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية المدرَج في «اتفاق جوبا» مع الحركات المسلّحة، والذي ينصّ على تجميع نحو ثمانية جيوش داخل العاصمة الخرطوم، بالإضافة إلى ميليشيا «الدعم السريع» التي تشكّل أطماع قائدها، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، أحد أسباب هذا الشرخ. والظاهر أن حميدتي يسعى إلى استغلال حالة الفراغ الدستوري في البلاد لتعزيز نفوذه السياسي والاقتصادي، ومن ذلك عقْده صفقات زراعية مع إسرائيل وإثيوبيا. وأثارت هذه التحرّكات حفيظة بعض قادة الجيش الناقمين في الأساس على المميّزات الكثيرة التي تحظى بها «الدعم السريع»، فيما لا يستبعد متابعون أن يؤدي طموح «حميدتي» اللامحدود إلى نسف شراكة المصالح القائمة بينه وبين قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان.
وعلى رغم تلك الخلافات التي تهدّد وحدة جبهة الانقلاب، لا يزال المكوّن العسكري يلعب على كسب مزيد من الوقت لتثبيت سلطته، مستعيناً في ذلك بأعضاء حزب «المؤتمر» الذين عاد الكثيرون منهم إلى وظائفهم. في المقابل، ترى القوى الرافضة للانقلاب أن عامل الوقت يلعب لمصلحتها، على رغم ضريبة الدم العالية التي تَدفعها في الشارع، على اعتبار أن الإفراط في العنف من شأنه تضييق الخناق على العسكر. وما بين الفريقَين، يجري حراك دولي وأممي بهدف تذليل العقبات أمام حوار سوداني - سوداني للتوصّل إلى حلّ للأزمة. وبالتوازي مع ذلك، تستمرّ واشنطن في التلويح بعصا العقوبات على قادة الجيش والشركات المملوكة له، من دون وجود مؤشّرات إلى نيّتها الذهاب في ضغوطها إلى أبعد ممّا هو قائم اليوم، خصوصاً أنها أعلنت دعمها جهود رئيس بعثة الأمم المتحدة «يونيتامس»، فولكر بيرتس، الرامية إلى تقريب وجهات النظر. لكن يبدو أن مهمّة فولكر لن يُكتب لها النجاح، في ظلّ ما تُواجهه من عقبات كثيرة ومعقّدة، أبرزها رفْض العسكر أيّ حل لا يضمن حضوره في المرحلة المقبلة، إضافة إلى استعداء البرهان البعثات الدبلوماسية الغربية والمبعوث الأممي، الذي هدّد قائد الجيش بطرْده أخيراً.