كما هي عادتها دائماً، اختارت الولايات المتحدة التوقيت الأنسب لها للظهور بمظهر «البطل»، الذي يواصل تعقُّب التنظيمات الإرهابية في المنطقة، من أجل إنهاء وجودها ومنْع انبعاثها. هكذا، وفي سيناريو مماثل لاغتيال أبو بكر البغدادي، وأسامة بن لادن، أقدمت القوات الأميركية على تنفيذ عملية إنزال جوّي، مشوَّشة التفاصيل، شماليّ سوريا، أسفرت عن مقتل زعيم تنظيم «داعش»، أبو إبراهيم القرشي. عمليةٌ ليس وقوعها مباشراً عقب الأحداث الأخيرة التي شهدها سجن الصناعة في مدينة الحسكة، عبثياً؛ إذ إنها تستهدف، بوضوح، التغطية على الفضيحة التي حملتها تلك الأحداث لواشنطن وحلفائها. وإذ يرمي الهجوم، أيضاً، إلى تصوير الولايات المتحدة بوصفْها وكيل محاربة فلول «داعش»، مع ما يستتبعه هذا - بحسب سرديتها - من ضرورة لبقائها في سوريا والعراق، فهو يؤكد مرّة جديدة طغيان الحسابات السياسية على كلّ ما تقوم به واشنطن اليوم. وليس أدلّ على ذلك من أن المقتول لا يحوز، عملياً، أكثر من صفة رمزية، فيما خلايا التنظيم تعمل على الأرض من دون العودة إلى قيادتها، مستفيدة من غطاءٍ ودعم يوفّرهما لها الأميركيون، تجلّت آخر مظاهرهما في نقل المستسلمين في سجن الصناعة إلى مناطق البادية
إثر عملية إنزال جوّي، تبعتها اشتباكات ومواجهات، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية اغتيال «أبو إبراهيم الهاشمي القرشي»، زعيم تنظيم «داعش»، في بلدة أطمة الحدودية مع تركيا في ريف إدلب، وهي منطقة تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، في تكرار مطابق تماماً لعملية اغتيال زعيم التنظيم السابق، «أبو بكر البغدادي»، الذي لقي حتفه في بلدة باريشا القريبة من أطمة. و«القرشي» لقبٌ حصل عليه زعيم «داعش» بعد تولّيه قيادة التنظيم خلَفاً للبغدادي، لأهداف إيديولوجية، إذ كان يُلقَّب سابقاً بـ«حجي عبد الله قرداش»، واسمه الحقيقي أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وهو من مواليد عام 1976 في ناحية المحلبية (على بعد 35 كلم غرب مدينة الموصل العراقية)، وهي منطقة ذات غالبية تركمانية، الأمر الذي مكّنه من إتقان اللغة التركية، حاله كحال عدد من أقربائه الذين تولّوا مناصب قيادية في «داعش». وكان «مركز مكافحة الإرهاب الأميركي» سرّب، بُعيد تولّي القرشي زعامة التنظيم، محاضر استجواب تعود إلى عام 2008، عندما أُلقي القبض عليه حينها لانتمائه إلى تنظيم «الدولة الإسلامية»، ليتمّ الإفراج عنه في وقت لاحق، حيث عاد وانضمّ إلى الجماعة وتسلّم مناصب عديدة فيها، قبل أن يخلُف البغدادي.
بالعودة إلى العملية، واجهت القوات الأميركية، على ما يبدو، صعوبات عديدة، أبرزها تعطُّل مروحية تمّ تدميرها بعد الانتهاء من الإنزال قرب بلدة جنديرس في عفرين، شمال مدينة حلب، بالإضافة إلى مواجهات وصفتها وسائل إعلام أميركية بأنها عنيفة، قبل أن تقوم تلك القوات بقصف المنزل الذي يتحصّن في داخله القرشي، في ما أدّى بمجمله إلى مقتل 13 شخصاً بينهم أربعة أطفال وثلاث نساء، بالإضافة إلى عنصر تابع لـ«هيئة تحرير الشام». وتأتي هذه العملية بعد أقلّ من أسبوع على هجوم شنّه تنظيم «داعش» على سجن الصناعة في مدينة الحسكة، والذي يضمّ نحو خمسة آلاف عنصر وقيادي من التنظيم، الأمر الذي أدّى إلى فرار نحو 200 عنصر، رجّحت مصادر ميدانية أنه جرى نقلهم بموافقة أميركية إلى مناطق في البادية السورية حيث ينتشر مقاتلون تابعون لـ«داعش» في جيوب عدّة.
تأتي العملية بعد أقلّ من أسبوع على هجوم شنّه «داعش» على سجن الصناعة في الحسكة


ووضَع الهجوم الذي تعرّض له سجن الصناعة، والذي أسفر عن حالة «فوضى» استمرّت قرابة أسبوع كامل، الولايات المتحدة الأميركية في موقف محرج، وسط تساؤلات عن سبب هذا الخرق الأمني، والعوامل التي أدّت إلى فشل تلافيه بشكل أسرع، الأمر الذي جاءت العملية الجديدة لتنْفض غباره عبر اغتيال رأس هرم التنظيم، بسيناريو مشابه تماماً لطريقة اغتيال سلفه (البغدادي) الذي قُتل عام 2019، في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ومماثل أيضاً لعملية اغتيال زعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، في باكستان عام 2011، خلال فترة تولّي باراك أوباما حُكم البيت الأبيض. ويثير المكان الذي اختاره القرشي، قرب الحدود التركية، تساؤلات عديدة حول طبيعة العلاقة التي تجمعه بأنقرة، خصوصاً أنه يتقن اللغة التركية، بالإضافة إلى كون المكان الذي يختبئ فيه يقع على مقربة من أحد المراكز الأمنية التابعة لـ«هيئة تحرير الشام»، والتي نَفّذت قبيل العملية الأميركية حملة اعتقالات طاولت قياديين في تنظيم «حراس الدين» التابع لـ«القاعدة».
كذلك، تأتي هذه العملية بعد نحو ثلاثة أيام على قيام تركيا بتنفيذ عملية عسكرية استهدفت مواقع في العراق وسوريا، طاولت مقرّات وقياديين في «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، وسط صمت أميركي، الأمر الذي دفع «قسد» إلى تحميل «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن مسؤولية تلك الهجمات، عن طريق «فتح الأجواء أمام الطائرات المسيّرة التركية»، ما يفتح الباب بدوره أمام احتمالات عديدة، من بينها وجود صفقة غضّت بموجبها الولايات المتحدة طرفها عن الهجمات التركية، مقابل تقديم أنقرة معلومات وتسهيلات لتنفيذ عملية اغتيال القرشي، والتي تحتاج إليها واشنطن بشكل كبير بعد انتكاسة الحسكة. وفي وقت ذكرت فيه مصادر متقاطعة أن العملية الأميركية تمّ تنفيذها بالتعاون مع الاستخبارات العراقية، اختارت القوات الأميركية الانطلاق من قواعدها شمال شرقي سوريا لتنفيذ الهجوم، من دون اختراق المجال الجوّي التركي، وهو ما يستهدف على ما يبدو تعزيز الغطاء الذي اتّخذته واشنطن لبقاء قواتها في سوريا بحجّة «محاربة الإرهاب».
وعلى الرغم من الصفة الاعتبارية لـ«القرشي» الذي يمثّل رأس هرم «داعش»، رأت مصادر ميدانية وجهادية عدّة أن هذا الاغتيال لن يؤثّر على عمل خلايا التنظيم، والتي كثّفت نشاطها بعد قرار واشنطن الإبقاء على قوّاتها في سوريا، حيث بات عناصر «داعش» يعتمدون على تنفيذ عمليات خاطفة يتمّ تصميمها وتنفيذها من قِبَل جماعات صغيرة ومحدّدة، من دون العودة إلى قيادة التنظيم. أمّا القيادة فيقتصر نشاطها على تلقّي الرسائل والصور والتسجيلات المصوّرة للعمليات ونشرها، بالإضافة إلى بعض المهامّ اللوجستية المتعلّقة بتسمية قادة أو عزلهم، أو تقديم الرأي الشرعي. ويعني ما تَقدّم أن «داعش» سيقوم لاحقاً بالإعلان عن تولّي زعيم جديد لقيادته، لتُتابع خلاياه نشاطها.