اتّخذت الاهتزازات الأمنية في الإمارات أبعاداً أكثر خطورة، مع دخول فصيل يطلق على نفسه اسم "ألوية الوعد الحق - أبناء الجزيرة العربية"، ويعمل انطلاقاً من العراق، على خطّ القصف الذي تتعرّض له الدولة الخليجية بالصواريخ والمسيّرات منذ أكثر من شهر، ليفتح عليها جبهة أخرى تنضمّ إلى جبهة اليمن. ويأتي ذلك بعد أن أضيف إلى دافعَي الانتقام من العدوان، والتطبيع المفرِط مع إسرائيل، عنوان التدخُّل الإماراتي في شؤون العراق، بما يكاد، إلى جانب عوامل أخرى، يفجّر البلاد بسبب الخلاف على تشكيل الحكومة، والتي يريد منها الفائزون في الانتخابات الأخيرة، وفي مقدّمتهم مقتدى الصدر، الاقتراب من الإمارات والسعودية وتركيا، والابتعاد عن إيران
بإطلاق عدد من المسيّرات المفخّخة نحو أبو ظبي، من قِبَل "ألوية الوعد الحق"، تكون "جبهة جديدة" قد فُتحت في وجه الإمارات، أقلّه بالعنوان السياسي الذي رَبط من خلاله هذا الفصيل القصفَ، بالتدخُّل الإماراتي في السياسة العراقية المتأزّمة هذه الأيام، وإنّما أيضاً على أساس وحدة التصدّي مع اليمن للهجمة التي يتّضح في المقابل أن واجهتها إماراتية، إلّا أن تحالفاً عريضاً يتظلّل بها، ويضمّ خصوصاً الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل التي تشارك في العدوان على اليمن، كما نفّذت اعتداءات كثيرة في العراق خلال السنوات الماضية.
يندرج في إطار هذه الصورة الأشمل للصراع، وخصوصاً في ما يتعلّق بحرب اليمن والدخول الإسرائيلي إلى الخليج عبر الإمارات، التفاوُض الإيراني - الإماراتي، الذي سُجّل في سياقه أمس اتّصال هاتفي بين وزيرَي خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان، والإمارات عبدالله بن زايد، أكد فيه الأوّل أن "استمرار الحرب في اليمن وانتشار رقعة الاشتباكات ليسا في مصلحة أيّ من الطرفين، ولا من مصلحة المنطقة"، كما شدّد على أن "وجود الكيان الصهيوني في المنطقة هو تهديد لجميع الدول، ويجب بذل جهد لمنْع منْح موطئ قدم لمُسبِّبي الأزمات في المنطقة".
يعني ما تَقدّم أن إيران تستخدم ديبلوماسيّتها في محاولة إقناع الإمارات بتخفيف تورّطها، خصوصاً العسكري، في النزاعات، وهو ما تفعل عكسه أبو ظبي حتى الآن، واضعةً أمنها في مهبّ الأعاصير اليمنية، عدا تهديد الأمن الإقليمي بصورة خطيرة من خلال التعاون الأمني والتطبيع غير المكبوح مع إسرائيل. وعلى هذه الخلفية، جاء الهجوم على أبو ظبي أول من أمس بأربع طائرات مسيّرة، والذي تبنّته "ألوية الوعد الحق" العراقية، وذلك قبل ساعات من اعتراف وزارة الدفاع الإماراتية بالهجوم، وقولها إنها أسقطت ثلاث مسيّرات في مناطق غير مأهولة بعد أن اخترقت المجال الجوّي الإماراتي. وتوعّدت الألوية بالمزيد من الضربات الموجعة، إلى أن "ترفع الإمارات يدها عن التدخّل في شؤون دول المنطقة وفي مقدّمتها العراق واليمن". وكانت الجماعة ذاتها قد تبنّت هجوماً بطائرات مسيّرة استهدف قصر اليمامة في الرياض ومنشآت أخرى في 23 كانون الثاني 2021، في بيان قالت فيه "إن أعراب الخليج تمادوا في جرائمهم بحق شعوب المنطقة، وواصلوا دعم الإرهاب الداعشي والجماعات التكفيرية التي أوغلت في دماء الأبرياء".
الصدر: بعض الإرهابيين الخارجين عن القانون يسارعون إلى الزجّ بالعراق في حرب إقليمية خطرة


وإذ يقول "معهد واشنطن" إن "ألوية الوعد الحق" قريبة من "كتائب حزب الله" في العراق، مستشهداً بأن وسائل الإعلام الإخبارية التابعة للكتائب تشير إلى الألوية وتشيد بها، يفيد المحلّل العراقي حيدر البرزنجي، "الأخبار"، بأن "المجموعة لم تعلن عن هويّتها، وتقول فقط إنها تنتمي إلى المقاومة، لكنّ المقاومة ليست حكراً على أحد، ويمكن لأيٍّ كان أن ينشئ فصيلاً ويعلن عن نفسه بأنه مقاوم ولا أحد يستطيع منعه"، مضيفاً أن "لا معلومات واضحة عن الألوية، وهي تقوم بعمل معيّن وتعلن عنه من دون أن تعطي أيّ إشارة إلى انتمائها".
وأيّاً تكن هوية الجماعة، فإن الحدث بذاته يؤكد أن الإمارات صارت عُرضة للهجمات من أكثر من اتّجاه، ما يضع أمنها أمام مخاطر أكبر، على خلفية عدوانها على اليمن، وتدخّلها الفاضح في الشأن الداخلي للعراق، الذي يبدو أن واشنطن سلّمتها ملفّ ترتيب الحُكم الجديد فيه، في ضوء نتائج انتخابات العاشر من تشرين الأول الماضي، التي حقّق الفوزَ الأكبر فيها، مقتدى الصدر ومسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي، وجميعهم حلفاء أو أصدقاء لأبو ظبي. والأخيرة تولّت التحرُّك باتجاه تركيا أيضاً، ما أتاح إجراء ترتيبات نتَج منها توحيد كتلتَي الحلبوسي وخميس الخنجر، وإعادة انتخاب الأوّل، الذي يُعتبر رجل الإمارات في العراق، رئيساً لمجلس النواب، وفتَح الطريق لتركيب "تحالف غالبية" يستبعد حلفاء إيران، وهو ما يُعتبر مغامرة كبيرة بأمن العراق، يتحمّل مسؤوليتها ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد.
إزاء ذلك، يمكن فْهم التغريدة الأخيرة للصدر، والتي قفز فيها إلى توجيه الاتهام إلى من سمّاهم "بعض الإرهابيين الخارجين عن القانون، الذين يسارعون إلى الزجّ بالعراق في حرب إقليمية خطرة، من خلال استهداف دولة خليجية بحجّة التطبيع أو بحجّة اليمن"، وذلك بعد "العنف المتصاعد في العراق من قِبَل جماعات إرهابية مسلّحة"، مطالِباً "الحكومة العراقية بالتعامل مع الفاعلين بجدّ وحزم، وإلّا فإنها ستكون مقصّرة، بل قد يتسبّب سكوتها بما لا تُحمد عُقباه". لكنّ الصدر لم يتطرّق إلى التدخُّل الإماراتي في الشأن العراقي، والذي صار أكثر ظهوراً في الآونة الأخيرة، وفق ما تُظهره اللقاءات أو الاتّصالات المتكررة التي يجريها ابن زايد بالساسة العراقيين، "شيعة وأكراداً وسُنّة"، ومن ضمنهم الصدر. وعندما سألت "الأخبار" النائب محمود المشهداني، وهو رئيس السنّ الذي أدار الجلسة الأولى للبرلمان العراقي الجديد، عن التدخُّل الخارجي في الشأن العراقي، ردّ بإرسال تغريدة منسوبة إلى الإعلامي الإماراتي، حمد المزروعي، مُرفَقة بصور لعدد من أكبر الساسة العراقيين أثناء لقاءاتهم بابن زايد، يقول فيها المزروعي على سبيل ابتزاز العراقيين إن "أحداً لا يستطيع الخروج عن أهداف الإمارات وتنفيذ مصالحها، لأن كلّ شيء موثّق بالكاميرا، ولدينا الكثير من المقاطع، ومن يفكّر في الخروج عن أهدافنا سيجد هذه المقاطع قد انتشرت".
على أيّ حال، وبعد اتّساع نطاق الاستهداف للأمن الإماراتي، صارت الرؤية أكثر وضوحاً، وسيكون على الإمارات أن تختار واحداً من اثنين، فالحرب والازدهار لا يلتقيان، وحتى يستطيع محمد بن راشد، شريك ابن زايد في التطبيع مع إسرائيل وفي التدخّلات الخارجية، أن يستمرّ في تنفيذ أحلامه ببناء الأبراج العالية، فعلى دولته وقْف التدخل العسكري في اليمن، والسياسي في العراق، وفرملة التطبيع مع إسرائيل. بالأمس، أعلن ابن راشد أن إمارته ستبدأ في 22- 02- 2022، بناء ما سمّاه "أجمل مبنى في العالم"، لكنّ الإعلان جاء باهتاً، ليعكس الهمّ الأمني المستجدّ الذي صار يؤرّق الإماراتيين ويخيف الوافدين والمستثمرين والسياح.