عندما تظهر شكوك في أن النظام السوري قد يكون استخدم أسلحة كيميائية في إحدى المناطق السورية، تُنشر الفرضية على أنها حقيقة وتطالب بتجريم الرئيس بشار الأسد دولياً. تُكتب افتتاحيات تنضح بالمشاعر الإنسانية وتدلّ بالإصبع على مجرم واحد اسمه بشار الأسد. تُعرض أفلام وضعها على «يوتيوب» مجهولون وتعتمد كدليل على تورّط النظام في مجازر كيميائية. وأكثر، يُجنّد مراسلون صحافيون في سوريا لجلب عيّنات من مواقع ضربت بالكيميائي وتسلّم إلى الحكومة لفحصها، ثم تخرج الحكومة لتطالب بتنفيذ هجوم عسكري لإسقاط الأسد «بسبب استخدامه سلاحاً كيميائياً ضد شعبه».
وعندما يخرج كلام عن الوفد الأممي المراقب يشير إلى عدم تورّط النظام السوري في الهجوم الكيميائي، يجري تجاهله. وعندما يعلن مسؤول أممي أنّ التحقيقات الدولية ترجّح تورّط المعارضة في أول هجوم كيميائي على السوريين، يُقتطع كلام المسؤول هذا من حديثه ويُطمس.
هكذا تعاطت، ولا تزال، معظم وسائل الإعلام الغربية، وخصوصاً الفرنسية منها، مع عصا «الكيميائي» التي هزّها بعض القادة السياسيين في وجه النظام السوري أكثر من مرّة في السنوات الماضية. وهكذا اختارت وسائل إعلام أن تتجاهل أخيراً تصريح المبعوث الأممي والعربي السابق إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي حول «ترجيح التحقيق الدولي تورّط المعارضة السورية في شنّ أول هجوم كيميائي في سوريا في خان العسل» في ريف حلب، في آذار عام ٢٠١٣. كلام الإبراهيمي الأخير جاء في مقابلة مع صحيفة «دير شبيغل» الألمانية قبل ٤ أيام.

النموذج الفرنسي الثاني لـ«المهنية» كان صحيفة «لو موند»

لكن الإعلام الغربي السائد قرر المضي بخطته نفسها بتجاهل كل ما من شأنه أن يضرّ بمصالح حكوماته في سوريا، ويخرّب صورة «المعارضة المعتدلة» الحليفة. البداية، مع مصدر الأخبار. وكالة الأنباء، التي يجب، تعريفاً، أن تنقل الخبر كما هو وبأكبر قدر من الحيادية. «وكالة فرانس برس» (أ ف ب) الفرنسية، مثلاً، لم تتجاهل مقابلة الإبراهيمي مع «دير شبيغل»، لكنها قررت أن تقتطع منها كل ما قاله عن الكيميائي. وزّعت الوكالة خبر المقابلة باللغات الفرنسية والانكليزية والعربية (وبخدمة مدفوعة) على وسائل الإعلام العالمية، مع تغييب تام لكل ما جاء حول استخدام الكيميائي في سوريا وما قاله المبعوث الأممي عن تورّط المعارضة في خان العسل. وكأن الإبراهيمي لم يقل شيئاً. الوكالة الفرنسية، تثبت مرّة جديدة أنها مدرسة في المهنية!
النموذج الفرنسي الثاني لـ«المهنية» ذاتها كان صحيفة «لو موند». تلك الصحيفة التي قادت بنفسها، في أيار ٢٠١٣، تحقيقاً جنائياً ـــ كيميائياً وزوّدت وزارة الدفاع الفرنسية بعيّنات أحضرها مراسلوها من ميدان «تغطيتهم» في سوريا. لم تعر «لو موند»، حتى الآن، مقابلة الإبراهيمي أي أهمية. أما من نقلوا الخبر كاملاً في صحف ومجلات قليلة، فركّزوا في عناوينهم ومقدمات مقالاتهم على أمور أخرى ذكرها الإبراهيمي، مثل الخشية من تحوّل سوريا إلى صومال جديدة، مع ذكر عابر، في نهاية الخبر، لمسألة تورّط المعارضة في استخدام الكيميائي.
وهنا برزت مدرسة أخرى في الصحافة العالمية، أي «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي). موقع «بي بي سي» نقل مقتطفات من مقابلة الإبراهيمي مع «دير شبيغل» وركّز، كالباقين، على المخاوف الأمنية المحدقة بمستقبل سوريا والمنطقة، متجاهلاً تماماً الحديث عن الكيميائي. لكن الموقع اختار أن يرفق خبره بجدول زمني حول استخدام الكيميائي في سوريا ربطاً بخروج أول دفعة منه من البلد. جدول «بي بي سي» الكيميائي بدأ بهجوم الغوطة في ٢١ آب ٢٠١٣ ولم يذكر سواه. لا وجود لحادثة خان العسل في الجدول. إذاً، الهجوم الكيميائي الأول الذي شنّ على السوريين والذي تتهم المعارضة بتنفيذه، ببساطة لم يحدث حسب المؤسسة البريطانية العريقة.
مقابلة الإبراهيمي ليست إلا مثالاً آخر وسط فوضى إعلامية غربية موجّهة سياسياً منذ بداية الحرب على سوريا. ما ورد على لسان الإبراهيمي حول حادثة خان العسل كان ليتصدّر العناوين الصحافية والتقارير التلفزيونية بعد لحظات من نشر المقابلة، خصوصاً أنه يقع في خانة المعلومة وليس التكهّن أو التحليل... لكن فقط لو اتهم النظام السوري.
هو الإعلام الأميركي والفرنسي والبريطاني ذاته الذي ما زال يدعو الى شنّ ضربة عسكرية على سوريا، غير آبه بإشعال المنطقة وسقوط مزيد من الضحايا. الإعلام الذي لا يريد، خصوصاً الآن، أيّ أمر من شأنه أن يهزّ صورة «المعارضة المعتدلة» التي يجب أن تحصل على السلاح بأي ثمن...