مقال حازم صاغية في «الشرق الأوسط»، في الـ 23 من الشهر الحالي بعنوان «مسيرة طويلة ومكلفة تنتهي حيث بدأ أحمد جبريل»، نموذجٌ من النسخة المنمّقة لأيديولوجيا كراهية الفلسطينيين. يلجأ صاغية، على مستوى المقاربة الفكرية، إلى تكتيكٍ مشابه لذلك الذي اعتمدته أوساط اليسار الصهيوني في الغرب، عند انطلاقة الانتفاضة الثانية، لمنع التضامن معها، على المستويين السياسي والشعبي. استند هؤلاء إلى مقولة «أسلمة» القضية الفلسطينية، أي المشاركة الأساسية لقوى ذات مرجعية دينية كـ»حماس» و»الجهاد الإسلامي»، في مقاومة المشروع الصهيوني، للوصول إلى استنتاج مفاده أنّ هذا الأمر غيّر من طبيعة القضية برمّتها: هي لم تعد قضية تحرّر وطني، تتّسق مع قيم الحداثة السياسية والقانون الدولي وتوق الشعوب إلى مجتمعات حرّة وعادلة وديموقراطية، بل هي تحوّلت إلى رافعة لمشروعٍ إسلامي على مستوى الإقليم، يهدف إلى إقامة خلافة إسلامية عابرة للحدود، على الضدّ من قيم الحداثة والتنوير.
عندما يُجمع الفلسطينيون على دعم سوريا ينقلب عليهم جميعاً ويسحب حقّهم بالقرار المستقل
هل يُعقل، أضاف هؤلاء، أن يقف اليسار، وما يمثّل من قيم، مع مثل هكذا مشروع؟ مقاربة صاغية أكثر خبثاً. هو لا يقفز مباشرة إلى الاستنتاج الذي يفرض نفسه بعد قراءة نصّه، بل يكتفي بمراجعة مواقف مختلف القوى السياسية الفلسطينية، سلطة رام الله وكلّ فصائل المقاومة، من سوريا. الجميع مُدان بنظره، لأنّه أيّد الدولة السورية، وهي في عُرفه صنو الديكتاتورية الشمولية، ضدّ الحرب المحلية / الإقليمية / الدولية التي تعرّضت لها. هو لا يتورّط أبداً في محاولةٍ لتفسير هذا التقاطُع في الموقف من سوريا، وما إذا كان يعبّر عن مفهوم معيّن للمصلحة الوطنية، بين هذه القوى المتناقضة منذ عقود حول قضايا جوهرية تتعلّق بالقضية الفلسطينية، من ضرورة المقاومة وأشكالها، إلى الهدف النهائي، أي التحرير الكامل أو التسوية وحلّ الدولتين. يعرف صاغية أنّ هذه القوى، في الماضي، تنازعت في ما بينها أيضاً حول العلاقة مع سوريا، وأنّ بعضها ناصبها العداء باسم القرار الوطني المستقل، وخاض معها صراعاً مريراً في الثمانينيات. صاغية كان من أنصار القرار المستقل، لأسباب اتّضحت في ما بعد، وهو لم ينفك يكرّر لسنوات: لا تُزايدوا على الفلسطينيين، ودعوهم يقرّرون ما يشاؤون، لمساندة خيار التسوية الذي اتّخذه بعضهم. نستطيع أن نفهم بوعي اليوم سرّ حماسته للقرار المستقل بالتسوية، وليس بالمقاومة بكل تأكيد، وهو التخلّص من الالتزام العربي بالقضية الفلسطينية، وما ترتّب عليها من أعباء بالنسبة إلى معظم الأنظمة العربية، والليبراليين المعولمين. لكن عندما يُجمع الفلسطينيون على دعم سوريا، ينقلب عليهم جميعاً، ويسحب حقّهم بالقرار المستقل. لا يربط صاغية بين هذا الموقف الفلسطيني، وبين المعركة مع مشروع الضم الاستيطاني الإحلالي المتسارِع في فلسطين، وحاجة الشعب الفلسطيني إلى حلفاء في مقابل عدوّ يلقى دعماً من الغرب بمجمله، ومن أنظمة خليجية. لا يأبه بأولويات الفلسطينيين في ظلّ ما يتعرّضون له، ولا بكونهم وجدوا ويجدون في سوريا، ولدى أطراف محور المقاومة، العون الذي يحتاجون إليه. ما أباحه عندما سوّغ تحالف الحركات المعادية للسوفيات في أوروبا الشرقية مع الولايات المتحدة في الثمانينيات، أو في «تحالفه»، هو وغيره من الليبراليين العرب راهناً، مع النظام السعودي، على قاعدة التقاطُع ضدّ العدو الرئيس، وهو بنظره «حزب الله» وإيران، يحرّمه على الفلسطينيين. بطبيعة الحال، لن يكون صاغية وأمثاله «مراجع تقليد» لشعب يكافح منذ قرن ونيّف ضدّ أحد أبشع أشكال الاستعمار الاستيطاني، الذي يستهدف وجوده في أرضه، وهو سيقف في خندق واحد مع مَن يدعمه، ويعادي مَن يعاديه، ويلجأ إلى ما يناسبه من قرارات ومواثيق ومعاهدات دولية. أما ما لا ينسجم ومصالحه، فسيستخدمه لمسح الأحذية، ومعه المطوّلات عن قيم الحداثة والتنوير.