الحسكة | تقطُن أم حسين (97 سنة) في مدينة الحسكة منذ أكثر من 80 عاماً، بعد أن تزوّجت أحد أبناء المدينة، وهي القادمة من محافظة دير الزور. هناك، كوّنت السيّدة عائلتها في منزلها في حيّ غويران، والذي لم تُغيّره منذ أن وطأت قدماها الحسكة. تقول أم حسين، التي لا تزال مُحافِظة على ذاكرتها على رغم تقدُّمها في العمر، في حديث إلى «الأخبار»، إنها «باتت بحاجة اليوم إلى ما يسمّونها بطاقة وافد، لتتمكّن من البقاء في الحسكة، بعد أن أنجبت 11 ولداً، وأكثر من 50 حفيداً، وأبناء أحفاد». و«بطاقة الوافد» هذه، قرّرت اعتمادها «الإدارة الذاتية» الكردية، لكلّ مَن تنحدر قيوده في السجلّ المدني من خارج محافظة الحسكة، وهو ما ينمّ، بحسب السيّدة نفسها، عن وجود مسؤولين «لا يعرفون عن التاريخ شيئاً... فالديْريون هم من مؤسّسي مدينة الحسكة إلى جانب المسيحيّين والعشائر ولاحقاً الأكراد»، مضيفةً باستنكار أنه «بعد كلّ هذه السنوات، يريدون أن ينزعوا عنّا صفة الانتماء إلى هذه المدينة». من جهته، يضطّر محمد، وهو طالب جامعي، إلى سلْك طرقات فرعية للوصول إلى كلّيته الجامعية في أطراف مدينة الحسكة، تجنّباً للمرور بحواجز «قسد»، التي صادرت هويّته الشخصية، وطالبته بإصدار البطاقة الجديدة، لكون قيْده المدني في دير الزور. ويقول محمد، لـ«الأخبار»، إن «والده ووالدته من أب وجدّ حسكاويَّيْن، إلّا أن جدّه ثبّت قيودهم في دير الزور منذ سنوات طويلة، لكون دير الزور كانت عاصمة المنطقة الشرقية، وفيها القسم الأكبر من المؤسّسات الحكومية حينها». ويضيف الشاب أنه «بات بحاجة إلى كفيل حتى يتمكّن من العيش في مدينته التي يُعتبر أجداده من مؤسّسيها».
كذلك، قادت الظروف الصعبة التي عاشتها محافظة دير الزور، عائلة أم علي، للجوء إلى مدينة الحسكة، واستئجار منزل للعيش فيها، نتيجة سيطرة «داعش» على الحيّ الذي كانت تقطنه العائلة حينها. تصف أم علي قرار «قسد» بأنه «مُستهجَن وغريب وغير قانوني، بخاصة أنّنا نعيش ضمن الحدود الطبيعية للبلاد، إلّا إذا كان أصحاب القرار يمهّدون للانفصال»، لافتةً إلى أنها «رفضت إصدار البطاقة، لكونها أوّل خطوة في طريق إجبارهم لاحقاً على مغادرة المنطقة، والعودة قسراً إلى دير الزور»، مؤكدة أنها «لن تُوقّع على ورقة تُثبت أنها تَقطن مؤقّتاً على أرضها». والجدير ذكره، هنا، أن مدينتَي الحسكة والقامشلي، في شكلهما الحالي، قد تأسّستا في نهاية عشرينيات القرن المنصرم، من عدّة عوائل مسيحية سريانيّة، لتنضمّ إليها لاحقاً العشائر العربية القادمة من أرياف المحافظة، ويلحقها الأكراد، ويشكّلوا معاً النسيج الاجتماعي للمحافظة. وتقطُن في الحسكة، اليوم، مئات العوائل المنحدرة من عدّة محافظات، نتيجة علاقات العمل والمصاهرة، ومن بينها أسر يعود تاريخ وجودها هناك إلى بدايات تأسيس المحافظة، التي باتت تمثّل جزءاً أساسياً من مكوّناتها الاجتماعية، فيما عشرات العوائل الأخرى نزحت بفعل الحرب الأخيرة.
بدأت «الأسايش» تطبيق القرار وصادرت بطاقات كثيرين من سكّان المنطقة


وبدأت، خلال الأيام الماضية، حواجز «الأسايش» التابعة لـ«الإدارة الذاتية»، والمنتشرة في الحسكة، بتطبيق قرار فرْض «بطاقة وافد»، حيث جرت مصادرة البطاقات الشخصية لكثير من الأشخاص المنحدرين من قيود مدنية من خارج الحسكة، حتى لو كانوا من سكّانها منذ عشرات السنين، مع إلزامهم باستصدار البطاقة الجديدة. وعلى خلفية ذلك، اتّهم عدد من وجهاء العشائر، «قسد»، بالعمل على «إخلاء المحافظة من جزء رئيس من سكّانها الأصليين، في محاولة لإثبات أنها محافظة ذات غالبية كردية، للتغطية على تسبُّب الذاتية بتهجير أعداد كبيرة من سكّان المنطقة، بسبب التجنيد الإجباري والمناهج المؤدلجة». وأوضح هؤلاء، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الأكراد هم نسيج أساسي ومهمّ في مجتمع الجزيرة السورية، لكنهم ليسوا وحدهم، ومِثل هذه القرارات لا تُرضي أبناء هذا المكوّن»، معتبرين أن الخطوة الأخيرة «لن تنجح في تغيير الحقائق التاريخية للتركيبة الاجتماعية لمنطقة الجزيرة، والتي تُشكّل العشائر أكثر من ثلثَيها».
من جهتها، توضح مصادر أهلية من داخل الشريط الحدودي في الحسكة، في حديث إلى «الأخبار»، أن «القرار يستهدف بشكل رئيس قبيلة الولدة العربية، أو المعروفة بالغَمر، والتي يقطن غالبية أبنائها الشريط الحدودي مع تركيا، والذي يمتدّ على طول 120 كلم من المالكية وحتى رأس العين». وتُبيّن المصادر أن «هؤلاء يقطنون المنطقة منذ سبعينيّات القرن المنصرم، بعد أن عوّضتهم الحكومة السورية بمنازل في هذه المناطق، إثر استثمار مساحات ممتلكاتهم لتأسيس سدّ الفرات في الرقة». وترى أن القرار «يهدف لتوقيع الغمر على قرار تهجيرهم من الحسكة، باسم بطاقة وافد المزعومة». وتتّهم العديد من القيادات الكردية، منذ عقود، الحكومة السورية، بمحاولة تعريب المنطقة، من خلال نقل عشائر الغَمر (كناية عن مَن غمرت مياه سدّ الفرات منازلهم وأزالتها) من ريف الرقة إلى مدن الشريط الحدودي وبلداته، في عام 1975، بحجّة تعويضهم بمنازل بديلة.
في المقابل، تُدافع مصادر من «الإدارة الذاتية» بأن «قرارها أمني، ويهدف إلى منْع تسلُّل خلايا داعش إلى المحافظة»، مضيفة أنه «يهدف إلى معرفة عدد النازحين الذين قصدوا المنطقة بعد عام 2011، ولا يستهدف الأهالي الذين يقطنون في المحافظة قبل هذه الفترة». وتَلفت إلى أن «كلّ من يُبرز وثيقة ملكيّة قبل عام 2011، سيكون خارج القرار، وسيتمّ تزويده بوثائق تُثبت حقّه في الإقامة في المنطقة». وتصف الحديث عن أن القرار يستهدف إحداث تغيير ديموغرافي بأنه «غير دقيق»، قائلة إن «الإدارة الذاتية قائمة على التعايش بين كلّ مكوّنات المنطقة».