الخرطوم | وكأنّه لم يكفِ الاقتصادَ السوداني ما عاناه خلال السنوات القليلة الماضية، حتى جاءت تداعيات انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، على الشريك المدني في «المجلس السيادي»، في 25 تشرين الأوّل الماضي، لتزيد الطين بلّة. فمنذ ذلك التاريخ، توقَّف الدعم المالي الذي كانت تتلقّاه الحكومة من الدول الغربية، كما توقَّف الدعم المباشر من البنك الدولي عبر «برنامج ثمرات» المُخصَّص لمساعدة الأُسر في التغلّب على ارتفاع أسعار السلع. وتسبَّب هذا الوضع، في مقابل كثرة الالتزامات المالية، بإفراغ خزينة البنك المركزي من الاحتياطي النقدي الأجنبي، في حين ظهر المضاربون في سوق العملة السوداء، وظهَر معهم ارتفاع أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه (وصل سعر الدولار في السوق الموازي إلى 480 جنيهاً). ويرى اقتصاديون أن الحكومة القائمة لا تدرك حجم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، مستدلّين بالإجراءات الهشّة التي تقوم بها لسدّ العجز المالي في ميزان المصاريف، وابتكارها طرقاً «التفافية» لإنعاش إيرادات الدولة. وفي هذا السبيل، بادر وزير المالية في حكومة عبد الله حمدوك، والمتمسّك بمنصبه حتى اللحظة، جبريل إبراهيم، إلى مضاعفة أسعار الكهرباء، القطاع العام الوحيد الذي كان لا يزال مدعوماً من الحكومة.وقوبل قرار إبراهيم بردّة فعل عنيفة من المواطنين، لا سيّما مزارعي الولاية الشمالية الذين أثّرت الخطوة على حجم محاصيلهم الزراعية. ونفّذ هؤلاء وقفات احتجاجية، كما عمدوا إلى قطْع الطريق القومي والدولي الرابط بين الولاية الشمالية ومصر، وهو ما انعكس بصورة مباشرة على حركة التجارة الحدودية بين البلدين. وعلى الرغم من إعلان «مجلس السيادة» إلغاء تلك الزيادات، إلّا أن القرار لا يزال فاعلاً، ما اضطّر اتحاد مزراعي الولاية إلى قطْع الطريق مرّة أخرى، والتهديد بتصعيد أكبر في حال لم تتراجع الحكومة عن خطوتها. ويقع العبء الأكبر من تدهور الوضع الاقتصادي اليوم على كاهل المواطن البسيط، الذي تحمّل خلال العامَين الماضيَين إجراءات اقتصادية صارمة اتّخذتها الحكومة الانتقالية في سبيل تحسّن الاقتصاد وإنعاشه. غير أن ما حدث هو أن «الشعب السوداني نال العصا، من دون أن يحظى بالجزرة التي دفع ثمنها غالياً في ظلّ حكومة حمدوك»، بحسب المحلّل الاقتصادي، صدقي كبلو.
الإجراءات الأخيرة التي اتّخذتها وزارة المالية لن تؤدّي إلى خروج البلاد من أزمتها


ويَلفت كبلو، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «الشعب السوداني لم يطلْه من الوعود الغربية عبر المنظّمات المالية العالمية أيّ شيء، على رغم تحمّله عبء رفع الدعم عن السلع الأساسية وتخفيض سعر الجنيه». ويصف الوضع الاقتصادي الحالي بـ«القاتل»، مشيراً إلى أن «البلاد الآن تعيش من دون ميزانية، إضافة إلى أن القرارات المالية التي تؤثّر على ميزان الإيرادات، من زيادة لتعرفة الكهرباء وزيادة في أسعار السلع الأساسية، لم تُقرّ بعد الانقلاب وفق القوانين». وفي هذا الإطار، يَعتبر أن «تعديلات وزارة المالية لن تؤدّي إلى خروج البلاد من أزمتها المالية ناهيك عن أزمتها الاقتصادية»، مضيفاً أن العائدات من تلك الزيادات «لن تُمكّن الدولة من تسيير الأعمال والخدمات الأساسية من صحة وتعليم، خاصة في ظلّ الانهيار التامّ في الخدمات، كما أنها لا تكفي متطلّبات اتفاقيات السلام». مع ذلك، يرجّح كبلو أن «تستمرّ وزارة المالية في تحميل الشعب تبعات الأزمة الاقتصادية، مع انعدام الأمل في أيّ دعم خارجي»، متوقّعاً «استمرار ارتفاع معدّلات التضخم لاسيما مع تهديد وزارة المالية بإعادة النظر في الرسوم الجمركية الخاصة بالسلع الأساسية». ويَعتقد كبلو أن الخروج من الأزمة «يتمّ بإنهاء التبعية للخارج، واستغلال الموارد المحلّية من معادن وبترول وذهب وقطاع زراعي، وضبط وإصلاح التجارة الخارجية بحيث تعود عائدات التجارة إلى البنك المركزي»، مشدّداً على أن «مثل هذه الإجراءات هي التي تُخرج البلاد من أزمتها الاقتصادية، وتُمكّن الحكومة من التفاوض مع المنظّمات المالية العالمية بما يُحقّق المكاسب للبلاد».