كالعادة، استفاق وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، متأخّراً على الأحداث التي تَجري من حوله، حيث يَسعى بقوّة حالياً إلى العودة إلى التأثير في الساحة الأفغانية عبر باكستان، بعدما فاته حدث الانسحاب الأميركي، وسبقه الجميع إلى حجز بطاقاتهم للمشاركة في عملية إعادة صياغة أفغانستان ما بعد الاحتلال. لكنّ السعودية تصطدم، في مسعاها هذا، بعلاقة متردّية، شعبياً خاصّة، مع باكستان، التي انطلقت فيها حملة واسعة مناهِضة للمملكة قبل أيّام، إثر هجوم رسمي سعودي استهدف جماعة «التبليغ والدعوة» المنتشرة بشكل واسع في تلك البلاد. وهي حملةٌ لم يجد «الذُّباب السعودي»، بقيادة سعود القحطاني، ردّاً عليها سوى اتّهام إيران بالوقوف وراءها، مع لازمة تمنين الباكستانيين بفُتات المساعدات التي تقدّمها لهم المملكة وتريد شراءهم بثمنها
تمنّن الرياض الباكستانيين بفتات المساعدات التي تقدّمها لهم وتريد شراءهم بثمنها (أ ف ب )

عندما أطلقت المؤسّسة الدينية السعودية، قبل أيام، حملة ضدّ جماعة «الدعوة والتبليغ»، لم تكن تتوقّع حجم ردّ الفعل المعادي لها داخل باكستان. اكتشفت الرياض، فجأة، أن هذه الجماعة الصوفية تتْبع مرجعية «أقرب إلى أن تكون وثنية»، على حدّ تعبير المفتي العام للمملكة، عبد العزيز آل الشيخ، على رغم قيامها منذ عشرات السنين، وانتشارها الواسع في باكستان والهند وأفغانستان وأماكن أخرى من العالم، ووجودها حتى داخل المملكة. وجاء ذلك بينما تُحاول السعودية، التي وجدت نفسها خارج الأحداث الكبرى في تلك المنطقة، ولا سيما حدَثِ الانسحاب الأميركي من أفغانستان وعودة حركة «طالبان» إلى الحُكم، أن تجد لها مكاناً على الخارطة السياسية هناك، حيث تنشأ ساحة للتنافس الإقليمي المتعدّد الأطراف. وفي هذا السياق تحديداً، تأتي العودة السياسية السعودية الأخيرة، والتي اعتمدت فيها الرياض عدّة مسارات، منها تكثيف المساعدات الإغاثية إلى أفغانستان، والدعوة إلى اجتماع وزراء خارجية «منظّمة التعاون الإسلامي» في إسلام آباد حول أفغانستان (حضره القائم بأعمال وزير خارجية «طالبان»، الملا أمير خان متقي)، ومنْح باكستان قرضاً قيمته 4.2 مليارات دولار.
في ما وراء كلّ تلك التحرّكات السعودية، تقع إيران، التي تقيم علاقة جيّدة مع باكستان تسعى المملكة إلى تخريبها حالياً، والتي استطاعت أيضاً التوصّل إلى ترتيبات مع حركة «طالبان» على مدى سنوات طويلة، حين كانت الحركة مشتّتة وضعيفة، ما أسفر عن إرساء نوع من الاستقرار على جانبَي الحدود، بعد عودة الحركة إلى السلطة. لكنّ العودة السعودية هذه تواجه صعوبات؛ فالعلاقات الباكستانية – السعودية ليست في أفضل أحوالها، وإن حاول الرسميون في الدولتَين الإيحاء بذلك. وهي على المستوى الشعبي، أسوأ ممّا هي على المستوى الرسمي، كما ظهر في الحملة «التويترية» التي شنّها الباكستانيون على مدى أيّام ضدّ السعودية، ضمن «هاشتاغات» أبرزها «آل سعود گستاخ (يدّعون) الإسلام»، الذي تَصدّر «الترند»، وردّ عليها السعوديون كالعادة بتمنين الباكستانيين بالمساعدات المالية السعودية، وتحويل الانتباه من قِبَل حسابات معروفة يديرها سعود القحطاني إلى إيران، باتّهام الحرس الثوري الإيراني بالوقوف وراء الحملة ضدّ المملكة في البلد الآسيوي، خاصة أن باكستان تضمّ أقلّية شيعية وازنة، هي دائماً عُرضة للهجمات من قِبَل المؤسّسة الوهابية.
لم تصل العلاقات السعودية - الباكستانية إلى الدرَك الذي وصلت إليه تحت إدارة ابن سلمان


خروج الخلاف، في شقّه الشعبي، إلى العلن، جاء بعدما أصدر وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودي، عبد اللطيف آل الشيخ، توجيهات إلى أئمة المساجد في كلّ أنحاء السعودية، بتخصيص خطبة الجمعة في 10 كانون الأول الجاري ضدّ جماعة «التبليغ والدعوة»، التي أسّسها في الهند في عام 1926 الداعية محمد إلياس الكاندهلوي، وتُعتبر حالياً واحدة من أكبر الجماعات الإسلامية في العالم، واتّهامِ مريديها بأنهم من أصحاب «البدع» الذين لا يسيرون على منهج «السلف الصالح». لكن ذلك يتناقض مع إشادات نالتها الجماعة سابقاً (أقلّه في جناحها السعودي) من كبار رموز الوهابية، من أمثال محمد بن صالح العثيمين، الذي رأى أن «الجماعة فيهم خير، وفيهم دعوة، ولهم تأثير لم يَنَلْه أحد من الدعاة، ثمّ إنه من طبائعهم التواضع».
لم يكن السعوديون كلّهم على الموجة نفسها مع «ذُبابهم» الإلكتروني؛ إذ أثار الهجوم المفاجئ على الجماعة المعروفة باسم «الأحباب»، والتي لا تؤيّد العنف، شكوك هؤلاء حول أهدافه الحقيقية. ومع أنهم برّروا التعامل الرسمي وانقلاب المزاج الشعبي السعودي ضدّ باكستان باعتباره «ردّة فعل طبيعية وعادلة تجاه هذا العداء المجّاني» من قِبَل الباكستانيين، فقد رأى هؤلاء أنه إذا كان لإيران تأثير في باكستان فهو محدود، وأن الحكومة والشعب الباكستانيَّين اختاروا الاصطفاف ضدّ السعودية. لكن في الوقت الذي يسعى فيه ابن سلمان إلى إدخال تغييرات على ممارسة الوهابية في المملكة، لتتقبّل ظواهر الانفتاح الجديدة، ومنها إقامة الحفلات الفنّية التي يتولّى تنظيمها تركي آل الشيخ، يسعى مشايخ الوهابية إلى كتم الأصوات الدينية الأخرى التي قد تؤثّر على المواكبة المطلوبة منهم لهذا التغيير، خاصة أن أفراد جماعة «التبليغ والدعوة» لا يمانعون الذهاب إلى تلك الحفلات للدعوة إلى الإسلام؛ فهم في أوروبا، مثلاً، يقصدون الحانات لتبليغ دعوتهم. كذلك، تتعارض الطبيعة المسالِمة للجماعة، مع الطابع العنيف للوهابية، والذي يُستخدم لتسويغ قمع المعارضين تحت العنوان الديني.
لم تصل العلاقات السعودية - الباكستانية، الموصوفة بـ«التاريخية»، على المستويَين الرسمي والشعبي، إلى الدرَك الذي وصلت إليه تحت إدارة ابن سلمان. قبل ذلك، حُكي عن إمكان أن تشتري الرياض من إسلام آباد قنبلة نووية كنوع من التوازن مع إيران، علماً أن الرياض موّلت جزئياً صناعة القنبلة الباكستانية. كما استخدمت المملكة أراضي تلك الدولة لتجهيز وإرسال المقاتلين ضدّ السوفيات أيّام «الجهاد الأفغاني»، ضمن برنامج أشرف عليه تركي الفيصل الذي كان حينها رئيساً للاستخبارات العامّة السعودية. لكن سقوط محمد نجيب الله بعد رحيل السوفيات، وتعاوُن حركة «طالبان» مع تنظيم «القاعدة»، ومن ثمّ هجمات 11 أيلول، كلّها عوامل حدّت كثيراً من ضرورات هذه العلاقات، ومع ذلك بقيت جيّدة نسبياً. وعندما أرادت السعودية من باكستان أن تكون في جَيبها الصغير، مقابل القروض التي تقدّمها لها، أثار ذلك حساسية الباكستانيين، لتأتي الصفعة الكبرى على وجه المملكة، حين رفض البرلمان الباكستاني بالإجماع إرسال قوات للانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية ضدّ اليمن. في المقابل، استفزّت الصلات المتنامية بين إيران وباكستان، على المستوييَن الرسمي والشعبي، السعوديين.
آخر الرُّشى السعودية لباكستان، إلى جانب تمويل بقيمة 1.2 مليار دولار لشراء مشتقّات نفطية، قرْض قيمته 3 مليارات دولار بفائدة 4 % لمدّة عام واحد، تُعدّ شروطه صارمة وغير معهودة؛ إذ لم تكن الرياض سابقاً تهتمّ لمثل هذه الإجراءات الشكلية. لكن أكثر ما يستطيعه رئيس وزراء باكستان، عمران خان، المحتاج بشدّة إلى السيولة، هو الإشادة اللفظية بابن سلمان مِن مَثل القول إنه طبّق «رؤية 2030» لمكافحة الفساد في باكستان، واصفاً الإجراءات السعودية في هذا المضمار بأنها «نموذج مثالي لكلّ من يريد مكافحة الفساد بجدّية».