تونس | تُحيي تونس ذكرى اندلاع انتفاضة 17 كانون الأول 2010، وسط انقسام سياسي ومجتمعي حادّ، وتراجُع في جميع المؤشّرات الاقتصادية، وتعثّر لمفاوضات الحكومة مع شركائها الدوليين، فضلاً عن التغييرات الجذرية التي طرأت على الوضع السياسي، منذ إعلان الرئيس قيس سعيد إجراءاته الاستثنائية، المتمثّلة في تجميد عمل البرلمان، وإقالة الحكومة، واستئثاره بجميع مقاليد السلطة، ومن ثمّ إعلانه وضْع آليات لإدخال تعديلات جوهرية على الدستور، خاصة من باب النظام السياسي. ومن هنا، تبدو الذكرى، هذا العام، مماثِلة لظروف عام الانتفاضة نفسه، لناحية الخروج من منظومة حُكم وولوج أخرى، يصرّ سعيد على وضع أسسها منفرداً، من دون التشاور أو التشارك مع الأحزاب والمنظّمات، وهو ما جعله محطّ انتقادات داخلية وخارجية، تحذّر من خطورة انفراده بالسلطة ونزوعه نحو الديكتاتورية.وتضاعَف الجدل، أخيراً، حول أداء سعيد، بعد قراره تغيير «عيد الثورة» من 14 كانون الثاني إلى 17 كانون الأول، في خطوة استحسنتها القوى المؤيّدة للرئيس، بينما لاقت انتقادات واسعة على ضفّة منتقِديه، باعتبار أن تاريخ هروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، من تونس، يمثّل مفصلاً رئيساً في تاريخ البلاد، على أهمية تاريخ اندلاع الشرارة الأولى للانتفاضة. على أن السبب الأساسي وراء معارضة هذا القرار، إنّما يكمن في رفْض مبدأ «التاريخ يكتبه المنتصرون»، والذي يتجلّى في ما يُسمّيه هؤلاء تعسّف سعيد في التعامُل مع التاريخ الجامع للتونسيين. وعلى أيّ حال، فإن هذه الأُحادية باتت نهجاً ثابتاً لدى سعيد، تَمثّل آخر فصوله في إصداره أمراً رئاسياً بتاريخ 22 أيلول، جمع بموجبه كلّ السلطات بين يديه، وأعلن نفسه حاكماً لا ينازعه أحد، خاصة أن قراراته غير قابلة للطعن في ظلّ غياب المحكمة الدستورية، وإلغائه الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين. وبعدما ظلّ طيلة أربعة أشهر يَحكم بطريقة عشوائية وضبابية، مديراً الأذن الطرشاء لدعوات الأحزاب والمنظّمات والشخصيات إلى إعلان خريطة طريق للخروج من الحالة الاستثنائية، جاء إعلانه أخيراً هذه الخريطة التي يُفترض أن يعود بموجبها البرلمان المنتخَب بعد سنة من الآن، إنّما استجابة لضغوط القوى الغربية التي ربطت مساعدة تونس مالياً بوضع خطّة محدّدة وواضحة للعودة إلى النظام الديموقراطي.
تَحِلّ ذكرى الانتفاضة هذا العام وسط مخاوف من تضييع مكاسب 2011 على محدوديّتها


هكذا، تَحِلّ ذكرى الانتفاضة هذا العام، وسط مخاوف من تضييع مكاسب 2011 - على محدوديّتها - لفائدة تكريس حُكم استبدادي مجدّداً، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر على الحرّيّات العامّة، وسط غياب المؤسّسات الرقابية، وتراجُع جميع المؤشّرات الاقتصادية والمالية، والمديونية النشطة، والغلاء الكبير في أسعار المواد الغذائية والمحروقات. كلّ ذلك يوازيه إحجامٌ عن مصارحة التونسيين بحقيقة الأوضاع، أو إعلان خطط واضحة في مواجهة هذه التحدّيات التي باتت تهدّد وجود الدولة، والاستثمار بدلاً من ذلك في الانقسام المجتمعي، عبر التركيز على مهاجَمة المخالفين والتحريض عليهم. وعلى رغم المخاطر الكبيرة التي ولّدتها تجربة حركة «النهضة» في الحُكم، عبر رهْنها الدولة لفائدة طبقة فاسدة جعلت من المؤسّسات الدستورية مطيّة لممارسة الفساد والزبائنية واحتكار الاقتصاد، إلّا أن الوضع اليوم لا يبدو أفضل حالاً البتّة؛ ذلك أن سعيد، الذي يرتكز في حُكمه أساساً على المؤسّستَين الأمنية والعسكرية، لا يوفّر أيّ ضمانات للحفاظ على مكاسب الانتفاضة، ويستغلّ القضاء العسكري لإسكات معارضيه، حيث تفيد الأرقام بأن عدد المدنيين الذين أحيلوا على هذا القضاء، منذ 25 تموز، يفوق عددهم المُسجّل طيلة عشر سنوات.
أمّا قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية والمناطق المهمّشة، فقد تراجَعت إلى موقع ثانوي بعدما احتلّت حيّزاً رئيساً من خطابات سعيد، فيما باتت تتصدّر المشهدَ أسئلة كثيرة مِن مِثل: كيف سيقضي الرئيس على الفساد والمحسوبية ويُرسي آليات للحُكم الرشيد؟ كيف سيكرّس المحاسبة ويُنهي حالة الإفلات من العقاب؟ كيف سيتعاطى مع ملفّ الاغتيالات السياسية؟ كيف سيُنهي التفاوت الجهوي والتهميش الذي ازداد تعمُّقاً بعد الانتفاضة؟ كيف سيتعامل مع المانحين الدوليين و«صندوق النقد الدولي» الذي يضع شروطاً مجحفة لدعم الاقتصاد التونسي؟ كلّ هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات ورؤى وسياسات واضحة، لا إلى خطابات التخوين والتقسيم وتشويه المخالفين. وإلى الآن، وأيّاً كانت تسمية ما حدث يوم 25 تموز الماضي، انقلاباً أو انقلاباً دستورياً أو تصحيحَ مسار، فإن ما آلت إليه الأوضاع يشي، إلى الآن، بخلاصة واحدة: عودة إلى مربّع الحُكم الفردي، وتعطيلٌ للمؤسّسات الدستورية، وتضييق على الحرّيات وحقّ النفاذ إلى المعلومة، واستئثار شخص واحد بمصير البلاد وتقرير مستقبلها من دون تشاوُر أو تشارُك، وغياب للمعالجات الاقتصادية والاجتماعية.