الخرطوم | يُواصل رئيس الحكومة السودانية، عبدالله حمدوك، مشاوراته السياسية لإعلان تشكيلة حكومته الجديدة، بناءً على الاتفاق السياسي مع رئيس «المجلس السيادي»، عبد الفتاح البرهان، عازياً تَأخُّره في إنجازه مَهمّته هذه، إلى ما يُسمّيه «انخراط القوى السياسية الداعمة للثورة في حوار جادّ وعميق بُغية التوافق على ميثاق وطني، وخلْق جبهة عريضة لتحقيق الانتقال المدني الديموقراطي وتحصينه». ولا يفتأ مكتب حمدوك منذ أسابيع يروّج، عبر صفحته على «فيسبوك»، للميثاق المُشار إليه، مشدّداً على أنه «منصوص عليه في الاتفاق مع رئيس مجلس السيادة، وأنه سيكون بموافَقة القوى السياسية»، وهو عَيْن ما طرحه البرهان في حوار سابق مع وكالة «فرانس برس». ولم تمضِ عدّة أيّام على تلك التصريحات، حتى تَسرّبت إلى الإعلام مسودة مفترَضة للميثاق المقترَح، قيل إن رئيس الوزراء تَسلّم نسخة منها، من دون الإعلان عن هويّة الجهة التي أعدّتها، وإن كانت مصادر متطابقة أشارت إلى أن لجنة قانونية من المكوّن العسكري ومكتب حمدوك وقوى سياسية، هي التي اضطلعت بصياغة بنودها، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً على الساحة السياسية السودانية، إذ نفى المجلس المركزي لقوى «إعلان الحرية والتغيير» أيّ علاقة له بالوثيقة المُسرَّبة، مؤكداً أن «حمدوك لا يملك صلاحية دستورية للتوقيع على اتفاق أو طرْح ميثاق سياسي»، معتبراً أن «أهداف الميثاق المطروح تتلخّص في امتصاص غضب الشارع، وفتْح الطريق لإبدال قوى الحرية والتغيير الرئيسة بكيانات هلامية لا تؤمن بالديموقراطية»، داعياً «القوى الحَيّة إلى رفضه ومناوَأته». بدوره، وصف رئيس «حزب المؤتمر السوداني»، عمر الدقير، في مقال له، المسودة المُسرَّبة بـ«مجهولة النسب»، مشدّداً على أن «تضمينها مطالب قوى الثورة لا يمنحها مقبولية».
تتضمّن المسودّة المسرّبة للميثاق السياسي المقترَح 13 بنداً من بينها رفْع حالة الطوارئ

وتتضمّن المسودة المذكورة 13 بنداً، أهمّها: رفع حالة الطوارئ، والإبقاء على الوثيقة الدستورية مرجعاً قانونياً لإدارة المرحلة الانتقالية، ودمْج ميليشيا «الدعم السريع» بالقوّات المسلحة، وإعادة تشكيل «مجلس السيادة» من 6 أعضاء فقط عوضاً عن 14، ودعم رئيس الوزراء من أجل تشكيل حكومة كفاءات مستقلّة من كلّ الطيف السياسي السوداني باستثناء الحزب الحاكم السابق (المؤتمر الوطني)، إلى جانب استعادة الشراكة بين المدنيين والعسكريين مرّة أخرى.
تعميق الانقسام
يبدو أن تسريب مسودة الميثاق السياسي المقترَح، في هذا التوقيت بالذات، ومن دون الإفصاح عن هويّة الجهة التي أعدّته، يمثّل محاولة لجَسّ نبْض «الشارع الثوري» الرافض للانقلاب وما ترتّب عليه من أوضاع وما سيترتّب عليه لاحقاً. وفي هذا السياق، تعتقد «لجان المقاومة الشعبية»، ومعها «تجمّع المهنيين السودانيين»، اللذان يقودان الحراك الحالي، أن «كلّ ما بني على الانقلاب باطل ينبغي مقاومته»، وأن الحلّ يكمن فقط في عودة العسكر إلى ثُكناتهم، وترْك إدارة المرحلة الانتقالية للقوى المدنية والثورية. كذلك، يَظهر أن التسريب يستهدف، أيضاً، إحداث انقسام جديد بين القوى المُحرّكة للشارع راهناً، وبين مكوّنات «إعلان الحرية والتغيير» الرافضة للانقلاب، وفقاً للمحلّل السياسي والباحث في الأمن القومي، النعيم ضو البيت، إذ يَستبعد الأخير، في حديث إلى «الأخبار»، أن يكون حمدوك باحثاً عن إرضاء الشارع المناهض لاتفاقه مع البرهان أو محاولة استعادته، بل هو «يعمل على شقّه، وتعميق شروخه». ويرى ضو البيت أن رئيس الوزراء «يقع في المحظور مجدّداً، لكونه يعتمد الآلية نفسها التي كان يعمل بها نظام عمر البشير، فعِوضاً عن الذهاب مباشرة وبشجاعة وثقة نحو إيجاد حلول جذرية للأزمات، يحاول التحايل والالتفاف عليها، وهذه طريقة فاشلة بالتجربة والممارسة».
في المقابل، يعتقد محلّلون أن حمدوك والبرهان، بحديثهما عن ميثاق سياسي جديد، إنّما يُطبّقان فعلياً ما اتَّفقا عليه؛ فالبند السادس من الاتفاق السياسي المبرَم بينهما في 21 تشرين الثاني الماضي، ينصّ صراحة على أن «إدارة الفترة الانتقالية ستكون بموجب إعلان سياسي يحدّد إطار الشراكة بين القوى الوطنية السياسية والمدنية، والمكوّن العسكري، والإدارة الأهلية، ولجان المقاومة، وقوى الثورة الحيّة، وقطاعات الشباب والمرأة، وشيوخ الطرق الصوفية». ولكنّ هؤلاء المحلّلين يعتبرون أن طريقة الكشْف عن الميثاق المقترَح، تَعني إجهاضه قبل أن يخرج إلى الحياة؛ إذ إن هذه الطريقة جعلته «مرفوضاً من الجميع»، وفق ما تَلفت إليه الصحافية أفراح تاج الختم، مضيفة في حديث إلى «الأخبار»، أنه «على رغم أن الميثاق المفترَض تضمّن الكثير من مطالب الثورة، إلّا أن ما يتردّد عن تكريسه عودة الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل انقلاب البرهان، لا معنى له»، مستدرِكةً بأن «بعض البنود، إن صَحّت التسريبات، تُمثّل بعض مطالب الشارع، ويمكن إن عُرضت على النقاش والتداول مع القوى السياسية والثورية بشكل علني ومفتوح وموسّع، على أن يتبنّاها رئيس الوزراء، أن تُحدث أثراً أفضل».

يبدو أن تسريب مسودّة الميثاق السياسي في هذا التوقيت يمثّل محاولة لجَسّ نبْض «الشارع الثوري» (أ ف ب )

الحكومة... مستحيلة؟
الواقع أن المسودة المُسرَّبة تُعبّر، إلى حدّ كبير، عن وُجهة نظر رئيس البعثة الأممية (يونيتامس) إلى السودان، فولكر بيترس، وبعض مستشاري رئيس الوزراء والمقرّبين منه، والتي تتلخّص في إدماج كلّ الحركات المتمرّدة المُوقّعة على «اتفاق جوبا للسلام»، وميليشيا «الدعم السريع»، داخل الجيش، مع إيجاد مخرج آمن للبرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) وبقيّة أعضاء المكوّن العسكري في «مجلس السيادة» وقادة الأجهزة الأمنية، من المساءلة القانونية في ما يتعلّق بمذبحة فضّ اعتصام القيادة العامة عقب سقوط نظام عمر البشير، وحوادث قتْل المتظاهرين التي أعقبت انقلاب البرهان الأخير، لضمان استمرار المرحلة الانتقالية، والإسراع في استكمالها وصولاً إلى انتخابات يُقترح تنظيمها عام 2023. ومن هنا، فإن الميثاق المقترَح لن يلقى، على أيّ حال، قبولاً شعبياً، لكونه يتيح للمسؤولين عن جرائم القتل الإفلات من المحاسبة والعقاب. كما أنه لن يجد تأييداً لدى قوى «إعلان الحرية والتغيير»، بشقَّيها: «المجلس المركزي» الذي استنكر الإعلان المفترَض وطالب بالتصدّي له، وجبهة «الميثاق الوطني» المؤيّدة للانقلاب، والتي اعتبر بعض أطرافها الورقة المطروحة بمثابة إعادة للأوضاع إلى ما قبل «الخطوة التصحيحية» (الانقلابية) التي قام بها البرهان، وبالتالي رأت فيه انقلاباً عليها. وفي ظلّ استمرار الانقسام الحادّ بين مكوّنات «الحرية والتغيير»، وتَواصُل الحراك المناهِض للتسوية السياسية بين البرهان وحمدوك، تزداد مهمّة تشكيل حكومة جديدة، صعوبةً وتعقيداً، خاصة بعد التراجع الكبير في شعبيّة رئيس الوزراء نتيجة تخلّيه عن حاضنته السياسية المتمثّلة في «المجلس المركزي»، وفقدانه أيضاً دعم «الحراك الثوري» الذي ينادي الآن بإطاحة الوضع القائم برمّته، بما في ذلك حمدوك نفسه.