عقب انتهاء معركة «سيف القدس» في أيار الفائت، خرج رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار، وأعلن أن «فصائل المقاومة الفلسطينية لم تُوقّع اتفاقاً مكتوباً عبر الوسطاء، بل كان وقْفُ إطلاق النار متزامناً وبلا أيّ شروط». وأضاف أن «الأمر متروك للعالم ليحتوي الموقف حتى لا ينفجر من جديد، ويقدّم الإنجازات السياسية لشعبنا»، محذراً من «(أنّنا) سنُحرق الأخضر واليابس إن لم تُحلَّ مشاكل قطاع غزة قبل نهاية العام الحالي». وانطلاقاً من كلام السنوار حينها، وبناءً على مجمل التطوّرات التي أعقبت المعركة مذّاك، يبدو أن «حماس» تسير بخُطى ثابتة ومدروسة، على طريق تريد في نهايته تغيير الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع.تأكيدُ السنوار، آنذاك، أن الفصائل لم توقّع اتفاقاً مكتوباً، كان بمثابة إعلان تحرّر من أيّ افتراضات قد تكون لدى جهات إقليمية ودولية، حول أن المقاومة قد قبلت بوقْف إطلاق النار لمجرّد إنهاء الحرب. وعليه، فقد بدا الرجل واضحاً في تحذيره من أنه في حال فشل الوساطات وعدم تَحقّق التغييرات التي تأملها حركته، فإن المقاومة مستعدّة للذهاب في خيار تجديد التصعيد، إلى آخره. اليوم، يسود شعور في غزة، ولدى مختلف قيادات الفصائل، بأن الانتصار الذي تَحقّق في «سيف القدس» يجري العمل على منْع تسييله على أرض الواقع، في الوقت الذي تشعر فيه المقاومة بقدرتها على انتزاع مكاسب، سواءً من خلال ما تلمسه من حراك دولي وإقليمي متزايد تجاهها، أو من خلال ما أثبتته من قدرة على تنفيذ تهديداتها، وتحمّل نتائجها، وإعادة ترميم قدراتها العسكرية خلال أشهر قليلة.

تكتيك لا استراتيجية
تبدو قيادة المقاومة مقتنعة بأن الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه غزة، لا تزال قائمة على مبدأ «التنقيط»، أي إبقاء الحصار قائماً، وإن خُفّف شكلياً. وأمام هذا الواقع، فإن الخيارات المتاحة أمام الفصائل تتوزّع على مستويات متدرّجة من التصعيد، بدءاً من إطلاق الصواريخ التجريبية باتجاه البحر، انتقالاً إلى الحراك الشعبي عبر المسيرات الحدودية، ثمّ إطلاق البالونات الحارقة، وصولاً إلى التصعيد العسكري. وبالنسبة إلى الفصائل، فإن الهدف ليس الدخول في معركة جديدة، بقدْر ما هو ممارسة ضغوط جدّية تدفع الوسطاء إلى التحرّك لإلزام العدو بالعودة إلى التفاهمات. وبما أن ذلك الدور يَظهر أكبر ممّا يقدر المصريّون على القيام به، فإن المقاومة تتوقّع أن يدفع تصعيدها أطرافاً دولية للدخول على خطّ الوساطة، واضعةً في حساباتها حراجة الموقف في تل أبيب، الغارقة حدّ أذنيها في الملفّ النووي الإيراني وما يترتّب عليه.
وعلى رغم تصاعد التهديدات الصادرة عن قادة الاحتلال تجاه غزة، وسعْي المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية إلى إظهار القدرة والاستعداد لخوض معركة جديدة، من خلال رفْع وتيرة المناورات في منطقة «الغلاف»، إلّا أن المقاومة لا ترى في هذه التهديدات ما يجبرها على التراجع. قبل نحو أسبوعين، كتب أليكس فيشمان في «يديعوت أحرونوت» العبرية: «في غزّة، يعتقدون أنه في إسرائيل يوجد أنصاف رجال لا يريدون إلّا الهدوء، ولهذا فهم يسمحون لأنفسهم بأن يُملوا على إسرائيل متى تكون تهدئة، ومتى تُفتح النار». وشَبّه وضع المقاومة في غزة حالياً، بوضع المقاومة في لبنان بين تحرير العام 2000، وحرب تموز 2006، قائلاً: «تماماً مثلما في السنوات التي سبقت حرب لبنان الثانية، تباهوا هنا (في إسرائيل) بوهم الصواريخ الصدِئة لحزب الله... غير أنه أثناء الأشهر التي انقضت منذ حارس الأسوار (سيف القدس)، نجحت حماس في أن تُجدّد قسماً لا بأس به من منظومة الصواريخ». وأشار فيشمان إلى أنه في موازاة إجراء المقاومة تجارب على الصواريخ والمسيّرات، فإنه «عندنا في وزارة الدفاع، وفي الجيش الإسرائيلي، يتمسّكون بالتسوية كعنصر يضمن نوعاً من الاستقرار». كما يؤكّد أن «التسوية» من ناحية «حماس»، ليست استراتيجية، بل هي «تكتيك هدفه كسب الوقت لأجل الوصول إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل في وضع أفضل»، واصفاً المحاولات الأميركية والمصرية لإجراء مصالحة فلسطينية تمهّد لتشكيل حكومة وحدة، تتولّى قيادة مفاوضات توصل إلى تسوية مع إسرائيل، بأنها «هراء مطرّز».

الأقصى مرة أخرى
في المحصّلة، يبدو أن عناصر التفجير صارت شبه مكتملة. وبالإضافة إلى الأسباب المتعلّقة بقطاع غزة تحديداً، ثمّة عوامل أخرى شكّلت شرارة لمعركة «سيف القدس»، لا تزال نشِطة، كالمواجهات الدائمة بين الفلسطينيين والمستوطنين في المسجد الأقصى، ومحاولات التهجير المستمرّة في حيّ الشيخ جراح في القدس المحتلة. وفوق كلّ ذلك، فإن الوضعية الاستراتيجية لإسرائيل تُظهر تراجعاً مستمراً في مكانة الأخيرة، فيما السياقات الإقليمية والدولية الحالية توفّر مساحة استثنائية للاعبين «الصغار» لرفْع درجة تأثيرهم. وفي حال لم تتحقّق انفراجات كبرى في المفاوضات المتّصلة بالقطاع خلال فترة وجيزة، فإن الساحة الفلسطينية ستكون مقبلة على تصعيد تدريجي، قد تكون ذروته في منتصف شهر نيسان من العام المقبل، حيث يبدأ تزامن في التقويمَين الهجري والعبري، يكون فيه عيد الفصح العبري بأيامه السبعة، من 16 إلى 22 نيسان 2022، موافقاً لما بين 15 و21 رمضان. ومن المتوقّع أن تُجدّد الجماعات الصهيونية المتطرّفة، خلال الأيّام المذكورة، محاولة إدخال «قربان حيواني» إلى المسجد الأقصى وذبْحه داخله، في ما يمثّل طقساً قديماً لديها، تحاول فرضه منذ عام 2016، وتمكّنت من أدائه على درجات القصور الأموية جنوب الأقصى في 2018، وحاولت «تهريبه» في العام الحالي، ومن الممكن أن تسعى لتكريسه العام المقبل. أيضاً، من المتوقّع أن يقوم المستوطنون باقتحام المسجد بأعداد كبيرة، وأن يجري «نفخ البوق»، وأداء الطقوس الجماعية العلنية، في باحاته.