ثمّة شخصيات من أشباه الضيف يسجّلها التاريخ الشفوي لسكّان غزة والضفّة المحتلّة
حقبة التسعينيات حفلت، أيضاً، برمز آخر، يحمل قاسماً مشتركاً مع الشهيد عقل، وهو المهندس يحيى عياش، ابن بلدة رافات في قضاء سلفيت في الضفة المحتلّة، الشابّ المتفوّق في دراسته، والمبدع الذي استطاع الوصول إلى المعادلة الكيميائيّة التي حوّل بواسطتها المواد الأوّلية البسيطة، المتواجدة بوفرة في الصيدليات والمتاجر المدنية العامة، إلى قنابل تنفجر في وسط تل أبيب. برز عياش كرمز وأسطورة تلاعبت بجهاز «الشاباك»، حتى وضعَه رئيس الحكومة الإسرائيلية على رأس قائمة الاغتيال، بعد أن ازدحم ملفّه بالعشرات من العمليات الاستشهادية ذات الصبغة الانفجارية المميزة. أبدع عياش في عمله المقاوم، إلى الحدّ الذي نال فيه كُره عدوه واحترامه في آن. وقد عبّر الجنرال جدعون عيزرا، وهو نائب رئيس «الشاباك»، آنذاك، عن إعجابه بيحيى، في مقابلة مع صحيفة «معاريف»، قائلاً: «إن نجاح يحيى عياش في الفرار والبقاء، حوّله إلى هاجس يسيطر على قادة أجهزة الأمن ويتحدّاهم. فقد أصبح رجال المخابرات يطاردونه وكأنه تحدّ شخصي لكلّ منهم، وقد عقدت اجتماعات لا عدد لها من أجل التخطيط لكيفية تصفيته... لقد كرهْته، ولكنّني قدّرْت قدرته وكفاءته».
عصر الملثّمين
حفِل مطلع الانتفاضة الثانية عام 2000، بعدد جديد من الرموز، التي بدت مستوحاةً من شخصيات «الأنيمشين» الأسطورية، كـ«زوروا» و«بات مان». يتربّع على رأس قائمة هؤلاء، محمد المصري، الشهير بمحمد الضيف، لكثرة ما حلّ ضيفاً على بيوت رفاقه، خلال فترة مطاردته. هو القائد العسكري لـ«كتائب القسام»، والذي حاولت إسرائيل اغتياله أكثر من خمس مرّات. يجهل جلّ سكّان غزة هيئته الحقيقية، لكن ما هو معروف أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تمتلك صورةً واحدة له في شبابه، ولم تمتلك بعدها أيّ صورة أخرى. يَخرج الضيف إلى الإعلام في هيئة ظلّ، يُلقي خطاباً في اللحظات الحسّاسة، ثمّ يغيب، وتُترجم الأيام ما يقوله. في معركة «سيف القدس» الأخيرة، سجّلت الساعات التي سبقت ساعة الصفر (السادسة من العاشر من أيار 2021)، خروجه الأخير، حيث هدّد يومها بقلْب المشهد رأساً على عقب، إذا استمرّت ممارسات الاحتلال في حيّ الشيخ جراح. تقول مصادر في المقاومة، لـ«الأخبار»، إن تلك الساعات تخلّلتها ضغوط كبيرة من الوسطاء الدوليّين للحيلولة دون تنفيذ قائد «القسام» لوعده، لكن المستوى السياسي في فصائل المقاومة لم يمتلك ما يقوله، «لأن الضيف قد قال، وهكذا انتهى الأمر، وبدأت رشقات الصواريخ تنطلق في تمام الساعة التي حدّدها الضيف سلفاً».
القطب الآخر من ثُنائية «حماس»، هو الناطق العسكري باسم «كتائب القسام» أبو عبيدة، الشابّ ذو الصوت الرقيق والأسلوب الهادئ، والذي يعرفه جمهور المقاومة جيّداً. أصبح اسمه بعد «سيف القدس»، مقترناً بساعات صفر المقاومة. ببساطة: «سنضرب تل أبيب في تمام الساعة السادسة مساءً بصلية قدْرها كذا وكذا من الصواريخ، جهّزوا منظومات دفاعكم وانتظرونا». تَقصف المقاومة، ثمّ يعود الرجل بلثامه: «سنمنح سكّان تل أبيب هدنة لساعتين، ثمّ نبدأ الضرب». وفي التوقيت الذي يحدّده تماماً، يعود بخطابه: «انتظرونا على قدم واحدة، سنضرب الآن». سكّان قطاع غزة يعرفون أبو عبيدة جيداً، والمؤكد أن إسرائيل التي قصفت منزله في مرّات سابقة، تعرفه أيضاً، لكن لماذا اللثام إذاً؟ قد يكون أحد لوازم الهيبة الدائمة.