لا تنحصر فكرة الاغتيال لدى إسرائيل، في حدود الانتقام الشخصي، بل إن استخدامها لتلك الوسيلة بوجْه الكيانات الحزبية الكبيرة، يستبطن قدْراً وافراً من الدراسة لطبيعة الشخصيات التي يتمّ وضعها على قوائم التصفية. هذا ما تقوله عمليات الاغتيال التي نُفّذت بحقّ قيادات «منظّمة التحرير الفلسطينية» منذ منتصف الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات، وفي حالة «حماس» أيضاً، مع اختلاف النتائج. برز الاغتيال كركيزة أساسية في إنفاذ أهداف الحركة الصهيونية، منذ اغتالت المجموعات الصهيونية التي لم تكن قد حملت اسم «الموساد» بعد، اللورد موين، وهو سياسي ورجل أعمال بريطاني شهير، عام 1944؛ لأنه لم يكن يشجّع هجرة يهود بريطانيا إلى فلسطين. وأعقب تصفيةَ موين، تنفيذ عدد من عمليات الاغتيال المركّزة بحق كبرى العائلات اليهودية في ألمانيا، لإثارة الرعب في صفوفها، ودفْعها للهجرة إلى فلسطين. ومع انطلاق حركة «فتح» عام 1965، وظهور مجموعة من التيّارات السياسية المتباينة في داخلها، لجأت إسرائيل إلى تفعيل سياسة القتْل العابرة للحدود، في ما استَهدف تعزيز التيّار الذي يؤمن بالواقعية السياسية، على حساب التيّار «الراديكالي»، الذي يرى في البندقية والكفاح المسلّح، أقصر الطرق إلى التحرير واستعادة الحقوق. هكذا، جرّدت إسرائيل، «منظّمة التحرير»، من صقورها، صلاح خلف وخليل الوزير وكمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار، والعشرات من قيادات الصفّ الثاني الذين يمثّلون الأذرع الضاربة لهؤلاء، وأبقت على الساحة نوعَين اثنين من القيادات: أوّلهما، أولئك الذين يُنظّرون للحلّ السلمي وطريق المفاوضات، والتعاطي مع الوقائع القائمة؛ وثانيهما الذين كانوا حمَلوا البندقية، ولكنهم أبدوا لاحقاً «براغماتيةً» في تغيير الأدوات لتحصيل بعض الحقوق، ومرونة في التعاطي مع تيّار «الواقعية» الذي أضحى أكثر نفوذاً.
وفي حالة «حماس» أيضاً، لم يكن انتقاء القيادات التي وُضعت على رأس قائمة الاغتيال عشوائياً، فقد استعملت إسرائيل هذه الورقة بعد ما بدا أنها درست باستفاضة، الأصول الفكرية التي تنطلق منها الحركة، بوصْفها حركة مقاومة، ذات أصول «إخوانية»، يتلخّص هدفها الأسمى في إقامة ما يسمّى «دولة الإسلام» على أيّ شبر تسيطر عليه من الأرض. ولربّما كان الرهان الإسرائيلي على إدخال «حماس» في لعبة الحُكم، وإغراقها في تعقيداته، للوصول إلى مرحلة تصبح فيها المحافَظة على «حكومة المقاومة» أهمّ من ممارسة المقاومة ذاتها لتحقيق الأهداف الوطنية التي أنشئت لأجلها. لذا، لم يكن من الصدفة، أن يبدأ الاحتلال باغتيال القيادات السياسية الروحية للحركة، في خضمّ انتفاضة الأقصى، وبعد تنامي التوجّه الإسرائيلي إلى الانسحاب من قطاع غزة.

البداية من الأكثر هدوءاً
شهد عام 2003 اغتيال قياديَّيْن من أكثر الكوادر «الحمساوية» هدوءاً وخطورة، في آن. ففي آذار من ذلك، اغتالت المروحيات الإسرائيلية الدكتور إبراهيم المقادمة، القيادي المفكّر، الأقلّ ظهوراً والأكثر ديناميكية في الحركة. القائد السياسي - العسكري - الأمني، الذي أسّس أوّل أجهزة «حماس» الأمنية، «مجد»، وضعتْه إسرائيل في باكورة قائمة الاغتيال السياسي، وهي التي عرفته عن قرب حين اعتقلته عام 1984 بتهمة تأسيس نواة أوّل جهاز عسكري للحركة. وفي آب من العام نفسه، اغتالت إسرائيل المهندس إسماعيل أبو شنب، القيادي السياسي والشخصية النقابية والدعَوية الجامعة بين التفوّق المهني، حين عمل مهندساً في بلدية غزة، والطموح الأكاديمي الذي قاده إلى نيْل درجة «الماجستير» في الهندسة الإنشائية من جامعة كولورادو في الولايات المتحدة الأميركية. عُرف أبو شنب، الذي وضع بصماته في أكثر الجامعات الفلسطينية عراقة، بهدوئه الأخّاذ، فيما لفت الأنظار إليه حين أسهم حضوره الجامع في احتواء عدد من أحداث الاقتتال التي يتكرّر وقوعها بين الفصائل الفلسطينية. وعلى الرغم من حدّة الاستقطاب الحزبي في منتصف الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، ظلّ أبو شنب الشخصية المحبوبة، التي لا يُختلَف على وطنيّتها بين المتنافسين.
شهد عام 2003 اغتيال قياديَّيْن من أكثر الكوادر «الحمساوية» هدوءاً وخطورة، في آن


وفي آذار 2004، اغتالت إسرائيل الأب الروحي للحركة، الشيخ أحمد ياسين، في حدثٍ انتقل بـ«حماس» إلى مربّع آخر من الحضور والجماهيرية، ليس في الشارع الفلسطيني فحسب، إنّما على الصعيد العربي والدولي، وفي نيسان من العام ذاته، اغتالت خلَفه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، الذي وقف من على منصّة تأبين الشيخ ياسين، مُمسكاً بالبندقية، ومؤكداً أنها ما زالت «الطريق». قضى هؤلاء، إلى جانب قافلة كبيرة من القادة العسكريين، من أمثال محمود أبو هنود، وصلاح شحادة، وصلاح دروزة، وأحمد الجعبري. لكنّ الفارق، هو أنه وعلى الرغم من الوزن الكبير الذي يمثّله الراحلون، إلّا أن «حماس» استمرّت في نموّها الجماهيري وتوسّعها الحزبي الأفقي بَعدهم، وهو ما قد يُعزى إلى الطبيعة المؤسّساتية التي بُنيت الحركة على أساسها، والتي تؤهّل على نحو مستمرّ، قيادات صاعدة، تَصلح لممارسة أيّ دور قيادي يُناط بها إذا اقتضت الحاجة.
كان الهدف الإسرائيلي من الاغتيالات، يتمثّل في إعادة إنتاج تجربة «منظّمة التحرير»، عبر تصفية قيادات الصفّ الأول في مختلف المجالات الدعَوية والسياسية والعسكرية، وصولاً إلى إنتاج طبقة «براغماتية» تقبل بتمرير المشاريع الدولية في حال تعرّضت لقدْر غير محسوب من الضغوط. وإلى جانب ذلك، سعت إسرائيل إلى تسمين العمل الحكومي الذي ترعاه «حماس»، على حساب العمل الحزبي، بالضبط، كما فعلت مع حركة «فتح». لكنّ «حماس» التي تحتكم في قراراتها إلى مراكز شورى، وقواعد مؤثّرة، فصَلت على نحو شبه كلّي بين العملَين الحزبي والحكومي، واحتكمت في رسم خطّها السياسي، إلى أصوليّتها، التي أبقت عليها مَحمِيّة من أن تخضع لسياسة الرجل الواحد. كما أن الرهان على تحويل الحركة من الثورة إلى الدولة، من خلال إدخالها نفق السلطة التي اعتلت سدّتها في غزة، أفضى بعد 34 عاماً من انطلاقتها، إلى تمسّك أكبر بخطّ المقاومة، بوصْفه الضامن الأوحد لتحقيق الأهداف الوطنية، وصمّام الأمان الذي يكفل لها المحافظة على حضورها.