34 عاماً مضت على انطلاق «حماس»، الحركة التي تُعرّف عن نفسها بأنها «حركة تحرّر وطني، ذات فكر إسلامي وسطي معتدل، تحْصر نضالها وعملها في قضية فلسطين، ولا تتدخّل في شؤون الآخرين». لم يكن تاريخ 14 كانون الأول 1978 سوى الإشهار الرسمي لولادتها كذراع يمتلك خصوصيّة القتال المسلّح في أرض محتلّة، بعدما أخذ مُؤسّسها الشيخ أحمد ياسين على كاهله مهمّة التنظير لجماعة «الإخوان المسلمين»، فيما عملت هي تحت مسمّيات أخرى كـ«االمرابطون على أرض الإسراء»، و«حركة الكفاح الإسلامي». ظلّت الحركة، حتى قبل بضع سنوات من اليوم، تَعتبر نفسها وليدة التنظيم العالمي الذي أسّسه حسن البنا عام 1928، وتولّى الشيخ ياسين، ومعه عدد من قادة الجماعة، التنظير لدعوته، انطلاقاً من «مسجد المجمع الإسلامي» في حيّ الصبر في مدينة غزة، متّخذاً من المسجد ركيزة أساسية للتوسّع وسْط البنى الشعبية البسيطة، ومنطلِقاً منه في تأسيس شريحة من القيادات الدينية النخبوية التي ألقى على عاتقها مهمّة قيادة المجتمع.ولعلّ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، أسهم في تسريع انخراط «دعوة الشيخ ياسين» في العمل الوطني، بعدما خلّف تراجع حضور الحركات اليسارية مع بداية تقلُّص نفوذ الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينيات وحتى تفكّكه مطلع التسعينيات، فراغاً جاهزاً لاستقبال تجربة جديدة، تنطلق من الاتجاه الفطري المتديّن لسكّان القطاع. لاقت الحركة، في بداياتها، تشكيكاً في نواياها؛ إذ نَظر خصمها التقليدي، «فتح»، إليها بعين المتآمر على تمثيل «منظّمة التحرير الفلسطينية» للشعب الفلسطيني، لكن تأسيسها للجهاز العسكري الأوّل «المجاهدون الفلسطينيون»، والنشاط العسكري اللافت للأخير في خطف الجنود الإسرائيليين وتنفيذ عدد من عمليات الطعن بالسكاكين، فرضاها على الساحة بجدّية.
خاضت حركة «حماس»، إلى جانب بقيّة فصائل المقاومة، أربع حروب ضدّ العدو الإسرائيلي


تُعرّف «حماس» نفسها، وفق ميثاقها الأوّل الصادر عام 1988، على أنها جناح من أجنحة «الإخوان المسلمين» في فلسطين، يستمدّ من الجماعة «منهجه وأفكاره ومفاهيمه وتصوّراته عن الكون والحياة والإنسان، وإليها يحتكم في كلّ تصرّفاته، ومنها يستلهم ترشيد خُطاه». وتضيف أنها «حلقة من حلقات الجهاد في مواجهة الغزوة الصهيونية، تتّصل وترتبط بانطلاقة الشهيد عز الدين القسّام وإخوانه المجاهدين من الإخوان المسلمين عام 1936، وتمضي لتتّصل وترتبط بحلقة أخرى تضمّ جهاد الفلسطينيين وجهود وجهاد الإخوان المسلمين في حرب 1948، والعمليات الجهادية للإخوان المسلمين عام 1968 وما بعده». وتتبنّى «حماس» شعاراً نصّ عليه الميثاق الأول وهو: «الله غايتها، والرسول قدوتها، والقرآن دستورها، والجهاد سبيلها، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها». وتُعدّ إقامة «دولة الإسلام على أرض فلسطين» الهدف الاستراتيجي لها، والذي تؤسّس له مقاومة الاحتلال، حيث تَذكر الوثيقة الأولى ما نصّه: «الهدف منازلة الباطل وقهره ودحره، ليسود الحق، وتعود الأوطان، وينطلق من فوق مساجدها الآذان مُعلناً قيام دولة الإسلام، ليعود الناس والأشياء كلّ إلى مكانه الصحيح، والله المستعان». وتَعتبر الحركة فلسطين، أرضَ وقف إسلامي، لا يصحّ التفريط بها أو بجزء منها، ويُعدّ تحريرها «فرْض عيْن» على كلّ مسلم أينما كان. كما لا تطرح الوثيقة الأولى للحركة، أيّ تفريق بين اليهود والصهيونية.

عوامل التميّز
تمتلك «حماس» عوامل تَميّز ساهمت في انتشارها السريع. فهي أوّلاً، ابنة المجتمع المحافظ بطبيعته، وقد تمدّدت في بدايتها وسط الطبقات المجتمعية البسيطة التي لا يجتذبها خطاب النُخب (العمّال، كبار السنّ، طلاب المدارس)، بقدْر ما يأسرها التديّن. ولعلّ حرصها الكبير على بناء المساجد، والانطلاق منها لتنفيذ النشاطات الاجتماعية والرياضية والتعليمية والإغاثية، وفّرا لها قدرة عالية على النفاذ إلى البيوت والأسر كافة. أسّست «حماس»، على يد الشهيد صلاح شحادة، جهازها العسكري الأوّل، «المجاهدون الفلسطينيون»، الذي تلقّى ضربة أمنية في نهاية الثمانينيات، حلّت على إثرها «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، التي أُعلن عن تأسيسها عام 1992، محلّه. وبحسب مراجع تاريخية، تمكّن «المجاهدون الفلسطينيون» من اختطاف وقتل الرقيب الإسرائيلي آفي ساسبورتس في 3 شباط 1989، والجندي إيلان سعدون في 3 أيار 1989.
عزفت «حماس» عن المشاركة في الانتخابات التشريعية الأولى عام 1996، وقدّمت مسوّغات دينية وسياسية لرفضها العملية الديموقراطية، إلّا أنها عادت وانخرطت فيها عام 2006، على رغم بقاء الظروف السياسية على حالها، لناحية عقْد الانتخابات التشريعية كمُفرز من مفرزات «اتفاقية أوسلو» 1994، برقابة دولية، ورعاية من الاتحاد الأوروبي. وقد فازت الحركة، آنذاك، بغالبية مقاعد المجلس التشريعي. هذا النجاح فتح الباب على مصراعَيه أمام حقبة جديدة من الصراع الداخلي والرفض الدولي؛ إذ سرعان ما بادرت إسرائيل إلى فرْض حصار خانق على القطاع، فيما ساهم عدم تقبّل حركة «فتح» نتائج الانتخابات في اندلاع نزاع، أفضى إلى طرد السلطة من غزة، وتفكيك أجهزتها الأمنية عام 2007، لتَغدو أحداث ذلك العام البداية الرسمية للانقسام الفلسطيني، والذي لا يزال مستمراً حتّى اليوم؛ في ظلّ جهود «متعثّرة» لتحقيق المصالحة.
خاضت حركة «حماس»، إلى جانب بقيّة فصائل المقاومة، أربع حروب ضدّ العدو الإسرائيلي (2008، 2012 ،2014، 2021). وبينما حملت الأولى هدفاً إسرائيلياً تَمثّل في إسقاط حُكم الحركة واستعادة الجندي الأسير جلعاد شاليط، جاءت الحروب التالية، بشكل أو بآخر، كنتيجة «سياسية» للحصار المفروض على القطاع. دخلت «حماس»، مع اندلاع أحداث «الربيع العربي»، في صراع داخلي بين هويّتها الفلسطينية بوصْفها حركة مقاومة وطنية، وبين امتدادها الإقليمي بوصْفها ذراعاً من أذرع جماعة «الإخوان المسلمين»، وأسهمت مواقفها من الانتفاضات العربية في تعقيد علاقاتها مع عدد من الأنظمة، لاسيما النظام المصري الذي قام على أنقاض عزل الرئيس محمد مرسي، والنظام السوري الذي استطاع الصمود في وجه الحرب التي شُنّت عليه. ذلك الواقع المعقّد الذي أفرزته أحداث العقد الماضي، دفَع الحركة إلى إطلاق وثيقة سياسية جديدة في أيار 2017، سعت من خلالها إلى الحصول على القبول الإقليمي والدولي، وإبعاد سمة «الإرهاب» عنها، حيث وافقت على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، من دون الاعتراف بـ«شرعية دولة إسرائيل». قدّمت «حماس» و«كتائب القسام»، منذ إعلان التأسيس، العشرات من قادتها، إذ اغتالت إسرائيل أبرز قياداتها العسكرية والسياسية، ومنهم صلاح شحادة، مؤسّس الجهاز العسكري للحركة، وأحمد ياسين، الأب الروحي لها، وعبد العزيز الرنتيسي، وإسماعيل أبو شنب، وإبراهيم المقادمة، وأحمد الجعبري.