يستعدّ «الحشد الشعبي» في العراق لإجراء مناورة واسعة على طول الحدود السورية - العراقية، وفي منطقة تلعفر على الحدود مع تركيا، في الوقت الذي تستمرّ فيه أزمة نتائج الانتخابات، ويستخدم كلّ طرف نقاط قوّته في المواجهة حولها. وسيشارك في المناورة عشرات آلاف المقاتلين من «الحشد»، كما ستُستخدم فيها كلّ أنواع الأسلحة، وقد تستمرّ أكثر من شهر. وتُعتبر هذه الخطوة بمثابة رسالة إلى الأميركيين الذين قرّروا إبقاء كامل عديد قواتهم في العراق، والبالغ 2500 جندي، على رغم أنه كان من المفترض سحب الجزء الأكبر من تلك القوات بحلول 31 كانون الأول الجاري، وتحويل مهمّة الباقين من قتالية إلى استشارية - تدريبية وفق اتفاق الانسحاب مع حكومة بغداد. ولعلّ ما يعزّز الدلالة المُشار إليها هو بروز أصوات داخل الجيش والقوى الأمنية، مِمَّن تدرّب أصحابها على أيدي القوات الأميركية، تسعى إلى تبرير بقاء الاحتلال بالقول: «إذا انسحب الأميركيون فما البديل؟ وهم الذين يوفّرون لنا تقنيات تسمح بمراقبة كلّ الحدود العراقية عبر المسيّرات، وهذا ما لا يمكن توفيره من دون التكنولوجيا التي تملكها الولايات المتحدة، وإلّا فإن تنظيم داعش يمكن أن يعود للسيطرة مرّة أخرى على مناطق في البلاد». أيضاً، تحمل التدريبات رسالة إلى الأتراك والأكراد معاً، على أن أبرز الرسائل المُوجّهة من خلالها في الاتجاهات كافة، بما في ذلك الداخل العراقي، هي أن «الحشد» وفصائل المقاومة يمثّلان قوّة عسكرية لا أحد يستطيع تجاوزها، وهو ما يمكن اعتباره عامل توازن مع القوى الأخرى، مِن مِثل «التيّار الصدري»، الذي تتمثّل قوّته في تغلغله داخل وزارات الدولة العراقية وإداراتها.ويتزامن التدريب المنتَظر مع استمرار تطويق «المنطقة الخضراء» التي تضمّ رئاسة الوزراء ومعظم السفارات، من قِبَل ثلاثة ألوية من «الحشد»، منذ إطلاق النار على المتظاهرين الذين كانوا يحتجّون على ما يعتبرونه تزويراً لنتائج الانتخابات، في الخامس من تشرين الثاني الماضي. ويطالب زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، بنزْع السلاح من كلّ الفصائل العراقية، بما في ذلك فصائل المقاومة مِن مِثل «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق»، من دون أن يأتي على ذكر «الحشد» باعتباره مؤسّسة عسكرية رسمية عراقية، شأنه شأن الجيش والقوى الأمنية الأخرى. لكنّ الصدر يحسب حساباً لقوّة «الحشد» كونه خارجاً عن سيطرته سياسياً، خاصة في ظلّ قيادة «أبو فدك»، الذي حلّ مكان الشهيد أبو مهدي المهندس، كنائب لرئيس هيئة «الحشد»، فيما يُعدّ منصب رئاسة الهيئة، والذي يتولّاه فالح الفياض، فخرياً أكثر منه عملياً.
أمّا على صعيد انسداد الأفق السياسي، والذي يوفّر الأرضية لاختبار القوّة هذا، فيشير تأجيل المحكمة الاتحادية البتّ في دعوى رئيس تحالف «الفتح»، هادي العامري، لإلغاء الانتخابات، إلى 22 كانون الأول الجاري، إلى استمرار المأزق الذي وصل إليه طرفا الأزمة داخل «الصفّ الشيعي»، إلّا أنه يعطي وقتاً إضافياً لمحاولة التوصّل إلى تسوية، على رغم صعوبة ذلك. ويستمرّ الخلاف بين الصدر ومعارضيه على منصب رئاسة الوزراء، حيث طرح الأوّل، في الاجتماع الأخير له مع قادة «الإطار التنسيقي»، تكليف مصطفى الكاظمي مجدّداً برئاسة الحكومة بناءً على اتفاق بين الرجلَين سابقٍ للانتخابات، الأمر الذي رفضه الأخيرون، في حين يرفض بشكل قاطع تولّي رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، المنصب، لأسباب عديدة بينها ما هو شخصي، وبينها أنه يمثّل حزب الدعوة الذي بنى له حضوراً وازناً في مؤسّسات الدولة العراقية، والذي يَنظر إليه الصدر باعتباره خطراً حقيقياً على مشروعه لحُكم العراق.
لكنّ «التيّار الصدري»، الذي جاء أوّلاً وفق النتائج المعلَنة للانتخابات الأخيرة، يواجه مشكلات خاصة به، وليس مع منافسيه فقط؛ فالكثير من كوادره لا يوافقون على كلّ ما يفعله زعيمهم، الذي عمد أخيراً إلى تغيير قادة «سرايا السلام» التابعة له، فقط لأنهم أقاموا علاقات جيّدة مع قادة «الحشد»، كما أنه يواجه رفضاً من قِبَل القوى «السُّنّية» و«الكردية» لمحاولته الاستئثار بالحُكم، فيما تفضّل هي الحكومات الائتلافية التوافقية التي تملك هامش مناورة أكبر في التفاوض معها. في المقابل، يدرك الطرف الآخر أن الصدر قادر على تحريك الشارع، وأنه كان يدعم الكثير من منظّمات المجتمع المدني خلال حراك تشرين الأول 2019، وتناغَم في ذلك مع الدعم الغربي لتلك المنظمات، ولا سيما البريطاني منه. وبالتالي، لا سبيل إلى تجاوزه، حتى لو استطاع خصومه جمع الأصوات الـ166 الضرورية لتشكيل حكومة جديدة. لكن في خضمّ صراع «عضّ الأصابع» هذا، فإن الصدر ليس من مصلحته أن تطول الأزمة.
إزاء ذلك، يبدو أن ما يفتقر إليه الوضع العراقي حالياً، هو «المايسترو» الذي يستطيع اجتراح حلّ وسط بين الطرفَين. وهذا ما لن يتوفَّر إلّا إذا شعر كلاهما بالحاجة إليه، بعد أن يستنفدا خياراتهما لفرض برامجهما. ولعلّ الجانب المؤهّل للقيام بهذه المهمّة، هو إيران، التي تحتفظ بعلاقة مع الصدر تقوم على أنه لا يستطيع الابتعاد كثيراً عنها بسبب احتمال رفْض قاعدته الشعبية أيّ خيارات متطرّفة، ولكنها في المقابل ليست على انسجام تامّ مع مشروعه للاستفراد بحُكم العراق. لكنّ طهران تحاذر، حتى الآن، التدخّل في الصراع حتى لا تضطرّ إلى إغضاب أحد من أطرافه. أمّا بالنسبة إلى الكاظمي، فالظاهر أن الإيرانيين لا يمانعون بقاءه، طالما أنه يراعي مصالحهم وإن من موقع الحليف للولايات المتحدة؛ إذ تدرك طهران تماماً أن أيّ طرف خارجي أو داخلي لا يستطيع السيطرة على العراق بأكمله. وما ينطبق على إيران، ينطبق، أيضاً، على المرجعية الدينية في النجف، والتي لا تستطيع التدخل إلّا برضى الطرفَين المختلفين.