في وقت تترقّب فيه إسرائيل مآل التطوّرات المرتبطة بالملفّ النووي الإيراني، وكيفية انعكاسها على الأوضاع في المنطقة، حطّ نفتالي بينيت في أبو ظبي، في زيارة هي الأولى من نوعها، تبدو مرتبطة، من جهة، بالتقارب الإماراتي - الإيراني الحديث، ومن جهة أخرى، بالحسابات الشخصية لرئيس وزراء إسرائيل، الذي يواجه معارضة شرسة في الداخل. وإذ لا يراود تل أبيبَ الشكُّ في حقيقة تموضع الإمارات، على طول الخطّ، في الموقع المعادي للمقاومة وللقضية الفلسطينية، فهي تسعى، على ما يبدو، إلى الحدّ من تأثير التقارب المذكور، على مسار تطوير عملية التطبيع والدفْع بها قُدُماً
في أعقاب بروز مؤشّرات إلى نوع من «القلق» الإسرائيلي من التقارب الإماراتي مع إيران، تأتي زيارة رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، إلى أبو ظبي، ولقاؤه وليّ عهدها، محمد بن زايد، لتَطرح تساؤلات حول واقعيّة هذا القلق ومنطلقاته.
الأكيد أن تل أبيب لا تخشى انتقال النظام الإماراتي إلى المحور المعادي لها، كما لا تتحسّب لإمكانية تخلّيه عن خيار التطبيع، بل هي تتوجّس احتمال عدم الوصول إلى المدى الذي كانت تتوقّعه في إطار السّعي لتشكيل تحالف عربي - إسرائيلي مناوئ لإيران. بتعبير أوضح، تتحسّب إسرائيل لسيناريو إحداث الإمارات خرقاً في جدار الحظر المفروض على إيران، بما يُعزِّز قدرة الأخيرة على مواجهة التحدّيات الاقتصادية، التي تُولّدها الضغوط المُسلّطة عليها لحمْلها على وقْف برنامجها النووي، وتقديم تنازلات سياسية في المنطقة. وتكمن أهمية هذا «الاختراق» في كونه يتعارض مع الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية، الهادفة إلى تدفيع إيران أثماناً هائلة في اقتصادها وأمنها الاجتماعي، وتحويل ذلك إلى عبء على شعبها، من أجل تأليبه على نظامها، باعتبار ما يعيشه الإيرانيون نتيجة تمسّك الأخير بخياراته.
من هنا، يُراقب الجانب الإسرائيلي، بحذر متزايد، مسار التطوّرات على المستويَين النووي والإقليمي، لاستكشاف ما إن كانت ستُكثّر القيود على الدور الذي تلعبه أبو ظبي إلى جانب تل أبيب، في مواجهة طهران، في أكثر من مجال أمني وسياسي. وعلى هذه الخلفية، يأتي ما نقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مسؤول أمني إسرائيلي «رفيع المستوى»، في إشارة إلى كونه من الصفّ الأوّل (لا يَبعد أن يكون هو بينيت نفسه)، من أن «التقارب بشكل متوازٍ مع إيران وإسرائيل ليس مقبولاً». وينبع هذا التشدّد الإسرائيلي من اعتقاد الكيان العبري بأن مقتضيات المرحلة التي بلغها الصراع في المنطقة، تَفرض على جميع القوى المعادية لـ«محور المقاومة»، التكتّل في إطار استراتيجية مواجهة متكاملة، يتطلّبها اختلال معادلات القوّة لغير مصلحة تل أبيب وتحالفاتها. والمتغيّر الإضافي الذي يدفع، أيضاً، في اتّجاه بلورة استراتيجية من هذا النوع، يتمثّل في مسار المفاوضات النووية، سواءً أدّت إلى اتفاق ترتفع بموجبه العقوبات المفروضة على إيران، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات إيجابية على الأخيرة وحلفائها - وهو أمر مستبعد حتى الآن وفق التقديرات الإسرائيلية -، أو آلت إلى الفشل بما قد يعظّم المخاطر على الأنظمة التي تتصدّر المواجهة ضدّ «محور المقاومة».
تستبطن الزيارة أبعاداً متّصلة بشخص بينيت المهجوس بإثبات كفاءاته القيادية


بناءً على ما تَقدّم، يبدو أن الزيارة السرّية التي قام بها مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد، إلى إسرائيل، والتي أوردت خبرها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، استهدفت طمأنة الطرف الإسرائيلي، ووضْعه في صورة المدى الذي يمكن أن تبلغه الإمارات في علاقاتها مع إيران، والخلفيّات التي تدفع بها في هذا الاتّجاه. لكن مسؤولاً أمنياً إسرائيلياً عاد وأكّد أنه «في حال تمّ فتح الأبواب بين إيران والإمارات، فإن هذه القصّة كلّها (أي التطبيع) قد تتغيّر إلى الأسوأ»، في تعبير إضافي عن تمسّك إسرائيل بموقفها المتشدّد، والذي يتجاهل ظروف الإمارات الجغرافية والسياسية والأمنية، والتي تحملها على انتهاج بعض التكتيكات تفادياً لمستوى معيّن من المخاطر. في هذه الأجواء، تأتي زيارة بينيت، الأولى - رسمياً وعلانية - لرئيس حكومة إسرائيلي، إلى الإمارات، حيث بحث مع بن زايد سُبل «تعميق» العلاقات الثنائية، وتعزيز «اتفاقيات آبراهام»، فضلاً عن المسألة الإيرانية، التي ذكرت صحيفة «إسرائيل هيوم» في شأنها، نقلاً عن مسؤولين لم تذكر أسماءهم، أنه من المتوقّع أن يُطلِع بينيت، ابن زايد، على معلومات استخباراتية حول الطائرات المسيّرة التي تزوّد بها إيران حلفاءها في المنطقة، بعدما طرحت إسرائيل، الشهر الماضي، إمكانية إقامة «دفاعات مشتركة» مع دول عربية خليجية ضدّ الجمهورية الإسلامية.
وإذا كانت التطوّرات الإقليمية والدولية الأخيرة ساهمت في تسريع زيارة بينيت إلى أبو ظبي، إلّا أن ثمّة أبعاداً أخرى لا تقلّ أهمّية، متّصلة بشخص بينيت المهجوس بإثبات كفاءاته القيادية في أكثر من مجال، من ضمنها قدرته على التأثير في توجّهات قادة دول المنطقة، وفق ما تتطلّبه مصلحة إسرائيل، خصوصاً أن الرجل لا يفتأ يخضع لاختبارات على الساحة الإسرائيلية، نتيجة الحملات المتواصلة التي يشنّها ضدّه رئيس المعارضة، بنيامين نتنياهو، الذي يتربّص به لإسقاطه. وأيّاً تكن المخاوف والتقديرات الإسرائيلية التي لها سياقاتها الظرفية والمحدَّدة، فإن ثمّة ثوابت لا يشوبها أيّ وهم في الكيان العبري إزاء الدور الوظيفي المستجدّ للنظام الإماراتي؛ بعد سلوكه مساراً تطبيعياً تجاوَز بوتيرته كلّ عمليات التطبيع التي شهدتها المنطقة منذ «اتفاقية كامب ديفيد» عام 1978، ومحاولته الانتقال بها سريعاً إلى المستوى الشعبي، في اتّجاه لم يسبق أن اتّخذته أيّ دولة عربية دخلت «سلاماً» مع العدو. وعلى ذلك، ليس صدفة أن المخاوف التي تمّ التعبير عنها في إسرائيل، لم تلامس أيّاً ممّا يتّصل بفلسطين وشعبها، وهو ما لا يُتوقّع أن يتغيّر لاحقاً، نتيجة إدراك قادة العدو العميق لخلفيّات النظام الإماراتي وهويّته وموقعه في المحور المعادي للمقاومة وللقضية الفلسطينية.