قصة «الثورة» في سوريا تشبه حد التطابق حكاية قيادي في إحدى كتائب المعارضة المسلحة. كان «أبو علي» (ع.ح.)، إبن بلدة القصير الأربعيني، من أوائل المنشقين (عن مركز خدمته في الاستخبارات العامة) إلى جانب الضابطين أمجد الحميد وعبد الرحمن الشيخ وآخرين قُتلوا بمعظمهم. لعب «أبو علي»، في بداية «الثورة»، دور «الدينامو» في تنسيق التظاهرات التي كانت تطالب بإسقاط النظام. لكنّه ما لبث أن تحوّل إلى تهريب السلاح إلى سوريا بالتعاون مع مهربين لبنانيين.
في البداية، شملت عمليات التهريب التي كانت فردية بنادق صيد وما يتيسّر من رشاشات كلاشنيكوف. لكنها سرعان ما تطورت إلى عمليات منظّمة انغمس فيها التاجر وصاحب القضية، بعدما ظن بعضهم لوهلة أن أيام النظام «باتت معدودة». وتحوّل الحراك الذي بدأه فلاحون لم يكن يملك معظمهم ثمن تشريجة هاتف، باباً للكسب لدى كثيرين.
في بداية الأحداث، أوصى «أبو علي» صحافياً التقاه في القصير بأن يحضر له في الزيارة المقبلة زجاجة ويسكي من نوع «بلاك لابل»، من بيروت تحديداً. قالها ضاحكاً: «ويسكي بيروت طيب». كان «أبو علي» حليق الذقن ويحتسي الكحول ولا يعرف عنه التزام ديني، حاله كحال كثيرين من قيادات المعارضة المسلّحة والمسلّحين الذين شكّلوا نواة ما عُرف لاحقاً بـ «الجيش السوري الحر»، على رغم أن الكتائب التي انضوت تحت لوائه حملت أسماء إسلامية، مثل «أحفاد الصحابة» و«الحبيب المصطفى» و«عمر بن الخطاب» و«كتائب الفاروق». لكن هذه المجموعات بدأت تعزّز التزامها الديني رويداً رويداً. وهذا ما حصل مع «أبو علي» الذي كان يهزأ من ادعاءات الاعلام السوري بأن مسلّحين من «القاعدة» يقاتلون النظام. في اللقاء التالي مع الصحافي اللبناني، حمل الأخير معه زجاجة الويسكي، لكنّ الرجل اعتذر عن عدم قبولها: «أعدها معك. قررت وقف الشرب وبدأت بالصلاة». كان التغيّر قد طرأ على هيئة «أبو علي» الخارجية. أرخى الرجل لحيته، وبدأ حديثه يخلو من البذاءة المعتادة لصالح الأحاديث الدينية والآيات القرآنية.
ولم يعد التعاون مع «القاعدة» من المحظورات بالنسبة اليه لقتال «النظام الظالم». حينها كان «الجهاديون» قد بدأوا يطلّون برؤوسهم على الساحة السورية: وُلد تنظيم «جبهة النصرة»، وتنظيمات أُخرى تدور في فلك الجهاد العالمي، ورُفعت راية الدولة الإسلامية وبدأ الجهر بالعمل لإقامة الخلافة الراشدة في أرض الشام ومحيطها. كانت هذه التنظيمات تعمل، بداية، إلى جانب التنظيمات العلمانية. لكنها كانت أكثر خبرة وتنظيماً وتمويلاً، وكان هدفها الاستراتيجي واضحاً. صارت تجمع السلاح وتخزنه حتى أطلق عليها عناصر «الجيش الحر»، سخريةً، إسم «جيش أبو الطماير» لأنها كانت تطمر الأسلحة وتخزّنها إعداداً للمواجهة الكبرى على أرض الشام. وسرعان ما سطع نجم هذه التنظيمات في مقابل أفول نجم «الجيش الحر» وتوابعه.
«هاجر» أبو علي إلى حلب إثر سقوطها بيد المعارضة، وقاتل هناك «في سبيل الله». بعد شهور قليلة، كانت لحية الرجل قد وصلت حتى منتصف صدره، وبدأ أتباعه يلقبونه بـ «الشيخ». هو، اليوم، قيادي في إحدى أهم الكتائب المقاتلة تحت راية تنظيم «القاعدة» في حمص، وارتبط اسمه بالعديد من العمليات الأمنية والتفجيرات التي استهدفت مناطق علوية ومسيحية.
بعد أكثر من ثلاث سنوات على بداية الحراك المطالب بالحرية، انتهى الأمر بـ «الثوار» الى قناعة راسخة بأن «الحرية مطلبٌ فاسد، فديننا دين عبودية لله. لا للمدنية أو العلمانية... ونعمل لتحكيم شرع الله.