الجزائر | ظهرت بعض معالم سياسات حكومة أيمن بن عبد الرحمن، خلال مناقشة قانون المالية لسنة 2022 (الموازنة العامة)، حيث بدا أن الدولة الجزائرية تُخطّط لإعادة رسم خريطة الدعم الاجتماعي الذي يُثقل كاهل الميزانية سنوياً بـ17 مليار دولار، كما لإيجاد تمويل داخلي لمشاريع التنمية في الأقاليم، ورفع كفاءة الجهاز المصرفي، وتحفيز خلق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها قاطرة الاقتصاد والخزّان الأكبر لوظائف العمل. ولعلّ من أكثر التدابير إثارة للجدل، والذي يوحي فعلاً بنهاية مرحلة وبداية أخرى، الإعلان عن مراجعة صيغة الدعم الحكومي المُوجَّه للسلع الأكثر استهلاكاً، في ما يُعدّ مسّاً بأحد أبرز التابوهات السياسية، كون الجزائر ظلّت دائماً متعلّقة بالدولة الاجتماعية التي مثّلت شعاراً غير قابل للتنازل لدى كلّ حكام البلاد، خصوصاً أن أسسها حُدّدت في بيان الأول من تشرين الثاني 1954، الذي أطلق شرارة الحرب ضدّ المستعمر الفرنسي بهدف «إقامة الدولة الجزائرية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية». لذلك، استبق الوزير الأوّل ردود الفعل المُتوقّعة على خطّته، بالتأكيد أن الدولة لن تتخلّى عن التزاماتها الاجتماعية، ولكنها تريد فقط ترشيد الدعم وجعله أكثر فاعلية. ولهذا الغرض، تضمّن قانون المالية إنشاء جهاز وطني للتعويضات النقدية لمصلحة الأسر المؤهّلة، يتمّ من خلاله توجيه تحويلات نقدية مباشرة إلى المحتاجين بدل النظام الحالي الذي يعتمد دعم السلع الأساسية من المنشأ، ما يجعلها متاحة لكلّ المواطنين على اختلاف مستوياتهم المعيشية بالأسعار نفسها. وتُوفّر الدولة في الجزائر دعماً سخيّاً للمواد الواسعة الاستهلاك، مثل الخبز الذي يباع بـ0.5 دولار للوحدة، والحليب الذي لا يتعدّى ثمنه 0.2 دولار لليتر الواحد، كما يجري تسقيف أسعار بيع السكر الذي لا يتجاوز ثمنه الدولار للكيلوغرام الواحد، وصفيحة الزيت التي تباع في حدود دولار وربع لليتر الواحد. كذلك، يجري توجيه دعم غير مباشر يؤثّر على أسعار الخُضر والفواكه، من خلال الإعانات المُقدَّمة للفلاحين والتسهيلات الضريبية الممنوحة لهم، فيما تحرص الدولة على إبقاء سعر الكهرباء وغاز المنازل والمياه في مستويات معقولة. أمّا بقيّة الدعم فيتمثّل في الإعانات المُقدَّمة لبرامج السكن الاجتماعي، وللصحّة والتعليم، وهما من القطاعات العمومية المجّانية في الجزائر. ويمثّل الدعم، بكلّ أنواعه، نحو 20% من الناتج المحلي الخام الذي يقترب من 180 مليار دولار، ما يجعل عبئه ثقيلاً على الموازنة العامة، خاصة في ظلّ شحّ الموارد بفعل ما خلّفته أزمة «كورونا» من كوارث على القطاع النفطي العالمي، انعكست بشكل مباشر على مداخيل الجزائر التي تضرّرت كثيراً في العامين الماضيين، بينما تأمل في التعافي من جديد هذا العام.
أعلنت الحكومة أنها تُراجع صيغة الدعم المُوجَّه للسلع الأكثر استهلاكاً


ومع أن منطق الحكومة في التحوّل من الدعم العام إلى المُوجَّه، يبدو عقلانياً من الجانب النظري في ظلّ الظروف الحالية، إلّا أن هذا الإجراء يواجه مقاومة كبيرة حتى من جانب الأحزاب المحسوبة على الأغلبية الرئاسية في البرلمان، نظراً إلى المخاوف من اتّخاذه مدخلاً فقط لإلغاء الدعم مستقبلاً على الطريقة المصرية، ما سيؤدّي إلى اتّساع رقعة الفقر في الجزائر. وعلى رغم أن احتمالات إسقاط الإجراء ضعيفة بسبب الأغلبية الواسعة التي تحظى بها الحكومة، إلّا أن أصواتاً من الأغلبية ذاتها أَسمعت الوزير الأول، تحت قُبّة البرلمان، كلاماً قوياً بخصوص تنصّل الدولة من أعبائها الاجتماعية، ما دفع رئيس الحكومة إلى القول في ردوده إنه يعتقد بوجود سوء فهم لهذا التدبير، مشيراً إلى أنه لا يُعقل أن يشتري رغيفَ الخبز الغنيُّ والفقير بالسعر المدعوم نفسه. أمّا من جانب أحزاب المعارضة التي رفضت دخول البرلمان، فالهجوم شديد على الحكومة، حيث وصفت لويزة حنون، الأمينة العامة لـ«حزب العمّال» ذي التوجّه اليساري، قانون المالية بأنه إعلان حرب على الجزائريين وتمهيد لسحق الطبقة المتوسّطة في البلاد، في تقاطع مع رأي «جبهة القوى الاشتراكية»، أقدم حزب معارض في البلاد، والتي اعتبر مسؤولوها القانون بمثابة إعلان لنهاية الدولة الاجتماعية في الجزائر، وتوقّعوا فشل سياسة الدعم المُوجَّه، كونه لا يوجد إحصاء دقيق للأسر المستحِقّة للدعم.
وفي خضمّ هذا الجدال السياسي، يبدو الشارع الجزائري غير مستوعب بعد لما قد يَنجم عن سياسة توجيه الدعم من تحوّلات في حياته اليومية، لكن الحديث مع ذلك يكاد يكون مُركّزاً على موضوع وحيد هو القدرة الشرائية التي تراجعت بشكل كبير بفعل ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية؛ فمادة البطاطس التي تدخل في النظام الغذائي للجزائريين وصل سعرها لأوّل مرّة إلى ما يقرب الدولار للكيلوغرام، وهو وضع أرجعته الحكومة إلى مشاكل تتعلّق بالمضاربة وسنّت في مواجهته قوانين رادعة، لكن التفسير المتقدّم يبقى غير كافٍ في نظر المواطنين، كون ارتفاع الأسعار مسّ أغلب المواد، باستثناء تلك المدعومة، والتي أصبحت هي الأخرى نادرة في السوق. ويُرجع اقتصاديون، من جهتهم، ارتفاع الأسعار إلى كوْن فئة معتبَرة من الجزائريين استغنت منذ فترة عن المواد المدعومة بسبب جودتها المحدودة، ما جعلها تشعر بارتفاع الأسعار في المنتجات ذات الأسعار المُحرَّرة، ناهيك عن ارتفاع أسعار المواد الأولية في الأسواق الدولية، والذي ينعكس بالضرورة على المنتجات المستوردة والمصنَّعة جزئياً محلّياً. كما أدّى تراجع قيمة الدينار الجزائري أمام الدولار واليورو إلى ارتفاع الأسعار، خصوصاً أنه تزامن مع تقليص الدولة لهوامش الاستيراد، ما جعل بعض السلع تدخُل عبر السوق الموازية بأسعار العملات الصعبة، والتي ترتفع بنحو 40% عمّا هو متداول في البنوك الرسمية.
وعلى رغم سعي الحكومة لترشيد نفقاتها، سيبقى عجز الميزانية المتوقَّع لسنة 2022 كبيراً، إذ سيصل إلى 4100 مليار دينار، أي ما يعادل 30 مليار دولار، وهو ما يمثّل الفارق بين مجموع النفقات التي ستصل إلى 74 مليار دولار، والإيرادات التي ستكون في حدود 43 مليار دولار، وذلك على أساس سعر مرجعي لبرميل النفط يعادل 45 دولاراً، بينما ستكون توقّعات النموّ لسنة 2021، 4.4%، وستنخفض في سنة 2022 إلى 3.3%. ولتمويل عجز الميزانية، ألزمت السلطات الجزائرية نفسها بعدم اللجوء مطلقاً إلى الاستدانة من الخارج لاعتبارات تتعلّق بسيادة القرار الاقتصادي للبلاد، علماً أن الجزائر تُعدّ من بين الدول الأقلّ مديونية في العالم بنحو 4 مليارات دولار فقط. كما أنها تمتلك حالياً احتياطياً نقدياً أجنبياً بنحو 45 مليار دولار، وهو رقم بعيد عمّا كانت تتوفّر عليه البلاد سنة 2014، عندما كان هذا الاحتياطي يناهز 200 مليار دولار. ويُرتقب، مع نهاية السنة الجارية، إصدار قانون الاستثمارات الجديد، والذي تراهن عليه الحكومة، وفق تصريح وزير الصناعة، لجذب استثمارات أجنبية منتجة ظلّت معطَّلة في الجزائر، بفعل ضعف جاذبية السوق الجزائرية التي تعاني من ثقل الإدارة وعدم الاستقرار في القوانين، بالإضافة إلى إلزام كلّ المستثمرين بإيجاد شريك جزائري تكون له أغلبية 51% من الأسهم.