على رغم إصرار "التيّار الصدري" على الذهاب نحو حكومة أغلبية يستأثر فيها بالحُكم، إلّا أن الطريق أمامه إلى ذلك لا تبدو سالكة، في ظلّ تكّتل القوى "الشيعية" الأخرى ضدّه بإصرار على إقامة حكومة يشارك فيها الجميع، لا يقلّ صلابة عن إصراره على حكومة أغلبية. وبما أن المناصب والوزارات في العراق مُوزَّعة بين الأديان والطوائف والأعراق، كما المقاعد النيابية، فذلك يعني منطقياً أن حكومة الأغلبية هذه يجب أن تشمل الأحزاب التي حلّت في المرتبة الأولى في طوائفها وأعراقها. وهو ما يمثّل وصفةً للتأزيم، يُرجَّح أن تطيل عملية تشكيل الحكومة ربّما إلى أواخر العام المقبل، كما يَتوقّع خبراء قانون عراقيون. فإلى الآن، لم تُعلَن النتائج النهائية المصادَق عليها للانتخابات، وليس معروفاً متى يمكن أن تُعلَن، بالنظر إلى أن الدستور لا يحدّد مهلاً تنظّم تلك العملية، كما أن النتائج التي ستعلنها المفوضية العليا للانتخابات تظلّ قابلة للطعن أمام المحاكم. وفي ظلّ هذا الغموض، تعطّلت مباحثات تشكيل الحكومة تماماً، حتى بين الأطراف الفائزة في طوائفها وأعراقها، وسط معلومات عن تردّد رئيس "حزب تقدّم"، محمد الحلبوسي، الذي فاز حزبه بالحصّة "السُّنّية" الكبرى وحصل على 38 مقعداً، في الانضمام إلى حكومة مع الصدر من دون توافق "شيعي".
ليست ثمّة في الدستور مهل تنظّم إعلان النتائج المصادَق عليها للانتخابات (من الويب)

في هذا الوقت، من دون كثير اكتراث لتعطّل المفاوضات الحكومية، ولا للاعتراضات المستمرّة على نتائج الانتخابات النيابية، يمضي "التيار الصدري" نحو تعميق تغلغله في الدولة العميقة، إذ نَشر ما يسمى "وزير القائد" لدى التيّار، بياناً دعا فيه أصحاب الكفاءات إلى التقدّم بطلبات لديه إلى الوظائف الحكومية، لكنه سرعان ما تراجع عن هذه الدعوة، مُعلِناً أنه سيكتفي بـ"العدد الهائل" من الطلبات الذي وصل إليه بعد أقلّ من أربع وعشرين ساعة على الإعلان، وذلك إثر تأكيد مجلس الخدمة الاتحادي، وهو الجهة الحكومية المعنيّة بالتوظيف، أنه لا يعمل وفقاً لرغبات التيّار، وأن ما فعله الأخير يعنيه هو ولا يعني الحكومة العراقية التي كانت قد أعلنت مراراً التوقّف عن التوظيف في الجهات الحكومية. ويقول مقرّبون من "التيار الصدري" إن الهدف الأساسي من خطوته الأخيرة يتمثّل في وضع حدّ للتعيين على أساسات حزبية أو أخذ الأموال مقابل التعيين، لمصلحة توظيف الكفاءات وخرّيجي الكلّيات والمستحقّين للوظائف. لكنّ منتقدين قرأوا الإعلان على أنه مجرّد دعاية للتيار الذي كان عليه أن ينتظر تشكيل الحكومة، ومن ثمّ بدء العمل على مشاريع تنموية تستوعب هذه الطاقات.
وبالعودة إلى نتائج الانتخابات، والتي لا يُتوقَّع أن تؤدّي الطعون إلى تغيير جوهري فيها، خاصة بعد إعلان رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، أنه "لا وجود لتزوير بالدليل القانوني المعتبَر"، فإن النتائج نفسها، كما هي، كفيلة بأخذ الوضع إلى التأزيم. فالقوى «الشيعية» المتكتّلة ضدّ "التيار الصدري" تملك مجتمعة ما يزيد عن المقاعد الـ 73 التي نالها التيار في المجلس المكوَّن من 329 مقعداً، لكنها لا تتّفق على أكثر من مناهضة "الصدريين"، والمطالَبة بحكومة توافقية. وبالتالي، لا يمكن لتلك القوى تولّي تشكيل الحكومة بنفسها، لصعوبة الاتفاق على اسم رئيس للوزراء من بين مكوّناتها، فضلاً عن تطلّع رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، إلى تولّي المنصب مجدّداً، وهو ما ترفضه قوى داخل "الإطار التنسيقي"، فضلاً عن قوى في الطوائف والأعراق الأخرى.
ثمّة معلومات عن تردّد الحلبوسي في الانضمام إلى حكومة مع الصدر من دون توافق «شيعي»


على أن مشروع "التيار الصدري" لا يقف عند حدود الحكومة المقبلة، بل يتجاوزها إلى تسلّم دفّة الحُكم في العراق، وفق ما يُظهره الخطّ البياني الذي يسير عليه الرجل منذ وقت طويل، إذ إنه دائماً ما أخذ مسافة من السلطة التنفيذية المباشرة، بل وضع نفسه في خانة المعارضة، على رغم مشاركته في عدد من الحكومات. وهو عمل في المقابل، على تثبيت أنصاره في الوظائف العامة التي لا تتغيّر عادة مع تَغيّر الحكومات، وخصوصاً مدراء الوزارات والمديريات. ومع ذلك، يبقى المرتكز الأساسي للصدر في مشروع حُكم العراق، "الحالة الصدرية" التي تتشكّل من إرث والده الشهيد محمد محمد صادق الصدر، وشبكة واسعة من المؤسسات الاجتماعية المتغلغلة في "المجتمع الشيعي"، فضلاً عن علاقات خارجية سعى مقتدى في السنوات الأخيرة إلى تنويعها عبر نسج خيوط صلات شخصية مع كلّ من السعودية والإمارات، كما الانفتاح على بريطانيا، وعبرها على الولايات المتحدة، في محاولة لتقديم نموذج يتمايز فيه عن الجارة إيران، على رغم تصريحه بالرغبة في إقامة علاقات طيّبة مع الأخيرة. لكن ثمّة أسئلة كثير تُطرح في هذا الصدد، من بينها: هل العراق مُهيّأ لهكذا سيناريو؟ وإلى أيّ حدّ يُحسن الصدر الظنّ بالولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات؟ وهل يضمن عدم تدخّل تلك الدول في شؤون العراق الداخلية، بل والعبث بأمنه، كما تدلّ شواهد الماضي القريب، حين كان البلد عبارة عن بحيرة من الدماء؟
ربّما يجد الصدر أن ما ينتظره العراق في المستقبل يستأهل المُضيّ في طريق التفرّد، لكن وجهات نظر مقابِلة ترى أن مثل هذا السيناريو مستحيل التحقُّق، نظراً إلى التنوّع الكبير الذي تضمّه الساحة "الشيعية"، فضلاً عن الموزاييك الديني والطائفي والعرقي في البلد، الذي قد لا يحتمل أبداً حُكم رجل واحد، مرّة أخرى، ولو كان ملاكاً نازلاً من السماء. ولذلك، قد لا يكون أمام الرجل، اليوم أيضاً، سوى المساومة والاحتفاظ بمشروعه للمستقبل، لأن الإصرار على التفرّد الآن، يستبطن مخاطر كبيرة، وفق ما أنبأت به التطوّرات الأمنية الأخيرة التي شهدها العراق منذ انتخابات العاشر من الشهر الماضي.