المواقف المتناقضة جذريّاً لأبرز الأطراف السياسيين الليبيين حيال إعلان مجلس النواب في هذا البلد تعديلاً على موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، حيث ستجرى الأولى في الـ 24 من كانون الأوّل من هذا العام، بينما ستُؤجّل الثانية ــــ مبدئياً ــــ إلى كانون الثاني من العام المقبل، في تاريخ لم يُحدَّد بعد، وكذلك حيال الشروط المرتبطة بالعمليتَين الانتخابيتَين، تُنذر باحتمالات وخيمة. وقد ضاعف ترشُّح المشير خليفة حفتر للانتخابات الرئاسية، وكذلك سيف الإسلام القذافي، من حدّة تناقض هذه المواقف. والواضح أن السبب المباشر للأزمة الحالية هو غياب قانون انتخاب مقبول ومعترَف بشرعيته من جميع الأطراف المذكورين. وعلى الرغم من أن خريطة الطريق التي جرى التوافق عليها في جنيف، وحظيَت بدعم مجلس الأمن الدولي، وتشكَّلت بموجبها حكومة الوحدة الوطنية الحالية، نصَّت على قيام البرلمان والمجلس الأعلى للدولة بصياغة قاعدة دستورية تتيح بلورة قانون للانتخابات الرئاسية والتشريعية على أساسها في مهلة أقصاها شهر تموز الماضي، إلّا أن هذا الأمر لم يحصل. تلكؤ البرلمان ومعه المجلس في صياغة تلك القاعدة الدستورية، وتجاهُل مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا يان كوبيتش، ومعه «المجتمع الدولي»، لِمَا ورد في خريطة الطريق، وموافقتهما على إجراء الانتخابات في مثل هذه الظروف، وعلى إلغاء التزامن بين الرئاسية وتلك التشريعية، يثير العديد من التساؤلات حول الحسابات الفعلية للجهات المحلية والإقليمية والدولية المعنية في الشأن الليبي، وحقيقة الأهداف التي تبتغي تحقيقها.
غياب القاعدة الدستورية الناظمة
ليس سرّاً أن الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في الـ 24 من كانون الأوّل المقبل، هي الأولى من نوعها في ليبيا. سبق للبلاد أن شهدت انتخابات تشريعية لمرتَين متتاليتَين: في 2012، عند تشكيل «المؤتمر الوطني العام» الذي مثّل السلطة التشريعية في البلاد؛ وفي 2014، والتي نتج منها انتخاب أعضاء مجلس النواب الحالي، ذي الصفة التشريعية، وأعضاء المجلس الأعلى للدولة، ذي الصفة الاستشارية. ويُعدّ إصدار التشريعات من صلاحيات الأوّل، شرطَ تشاوره مع الثاني قبل إقرارها. لكن، عندما تجدَّد النزاع الأهلي/ الإقليمي/ الدولي في عام 2014، خضع مجلس النواب لقوات حفتر، ومجلس الدولة لحكومة طرابلس. والجدير ذكره هنا، هو أن «المؤتمر الوطني» حاول صياغة قاعدة دستورية، لكنه لم ينجح، فشكَّل لجنة دستورية، سُمِّيت «لجنة الستين» لأنها ضمّت ستين عضواً منه، اقترحت مسوّدة لقاعدة دستورية لم يجرِ التوافق عليها. أما مجلسا النواب والأعلى للدولة، فلَم يُكلِّفا نفسيهما عناء مثل هذه المهمّة بعد تجدّد النزاع الأهلي في 2014، ورهان مختلف فرقائه المحليين والخارجيين على حسْم الخيارات السياسية في ليبيا في الميدان، وليس عبر صناديق الاقتراع.
تبدو واشنطن مستعدة للتعامل مع أيّ حكومة ليبية مهما كانت هويّتها، إذا ساعدتها في تحقيق أهدافها


اللافت، اليوم، هو تغاضي الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص عن هدف محدَّد في خريطة الطريق التي ترعاها، وهو بلورة القاعدة الدستورية العتيدة من قِبَل المجلسَين المشار إليهما، أو، في حال تلكؤهما، تكليف لجنة الحوار الوطني الليبي بهذه المهمّة، وهي لجنة تضمّ 75 عضواً، 26 من بينهم هم من أعضاء المجلسَين (13 من البرلمان، و13 من المجلس الأعلى، لأن في ليبيا 13 دائرة انتخابية) اختارهم زملاؤهم، و49 ممثلاً عن أبرز القوى السياسية والاجتماعية، من مثل التحالفات القبلية. هذه الآلية، أي تكليف اللجنة في حال عدم وفاء المجلسَين بتعّهدهما بالنسبة إلى القاعدة الدستورية، موجودة في خريطة الطريق، وكان من الممكن استخدامها كأداة ضغط على المجلسَين، لكن يان كوبتش، ومعه «المجتمع الدولي»، فضّلا الالتفاف عليها. وإن كانت دوافع أعضاء المجلسَين لعدم صياغة القاعدة الدستورية مفهومة، وهي أوّلاً رغبتهم في البقاء في مناصبهم والحؤول دون إقرار قانون انتخاب لا يلائمهم، فإن خلفيات الجهات «الأممية» والإقليمية والدولية، هي التي يكتنفها بعض الغموض. فمع موافقتها على إعلان مجلس النواب الليبي عن الانتخابات في ظلّ الشروط الراهنة، أي غياب التلازم بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وعدم وجود قاعدة دستورية ناظمة للعملية، تكون تلك الجهات قد أوضحت انحيازها للمرشّح خليفة حفتر. القوى السياسية في الغرب الليبي، على رغم الاعتبارات المذكورة، لا تريد الظهور بمظهر مَن يعرقل العملية الانتخابية نتيجةً لضغوط «المجتمع الدولي» عليها، وقطاع وازن من المجتمع الليبي يريد حصولها أملاً بأن ينجم عنها بعض التغييرات الإيجابية. لكنها طرحت شروطاً أربعة للمشاركة فيها: التلازم بين الانتخابات التشريعية والرئاسية وليس تأجيل الأولى، ما يسمح للرئيس المنتخَب بتنظيمها وفقاً لرؤاه ومصالحه؛ تحديد شروط للترشّح تستثني مجرمي الحرب، وخليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي ينطبق عليهما ــــ بعُرفها ــــ هذا التوصيف؛ منع مَن يحمل جنسية أجنبية من الترشّح، وحفتر يحمل الجنسية الأميركية؛ وتعديل الشرط المتعلّق بوقف أيّ مرشح شغل منصباً رسمياً لعمله ثلاثة أشهر قبل الترشّح لأنه يستثني عمداً عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية الحالية.

ليبيا ساحة تجاذب
لا ريب في أن موافقة الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص على إجراء الانتخابات في الظروف المذكورة سالفاً قد شجع حلفاء خليفة حفتر، وفي مقدّمتهم فرنسا، وإسرائيل الموعودة بالتطبيع العلني مع ليبيا في حال فوزه، والسعودية والإمارات، على استغلال هذه «المظلّة السياسية الدولية» لمحاولة إحراز تقدُّم أو حتى انتصار على الساحة الليبية. ولكنْ هناك حلفاء آخرون لحفتر لا تنسجم مصالحهم مع عودة الصراع المسلّح في ليبيا، وأوّلهم مصر المجاورة، والتي دعمت جهود التسوية السلمية منذ بدايتها، وباتت تمتلك شبكة علاقات قوية مع أطراف وازنة في الغرب الليبي. موقف روسيا، التي على الرغم من قوّة علاقاتها بحفتر والدعم الذي قدّمته له في الميدان (وصلاتها المتينة مع بعض أطراف غرب ليبيا)، أكثر تعقيداً ممّا يبدو. فهي ترى أن ليبيا ساحة يمكنها من خلالها الضغط على تركيا، من خلال الضغط على حلفائها في غرب البلاد، لدفعها نحو واقعية أكبر في سوريا أو في دورها في جوارها، إن كان في أذربيجان أو تجاه مسألة أوكرانيا التي تتبنّى فيها أنقرة مقاربةً «أطلسية». أما الطرف الذي لم يصدر عنه موقف واضح حتى الآن، فهو الولايات المتحدة. للأخيرة، أولويات أخرى دون شكّ، وهي تعتبر أن هدفَيها المركزيَّين في ليبيا هما صدّ النفوذ الروسي المتزايد، واستخدامها في إطار «حربها على الإرهاب» في منطقة الساحل والصحراء. وتبدو واشنطن مستعدة للتعامل مع أيّ حكومة ليبية مهما كانت هويتها، إذا ساعدتها في تحقيق هذَين الهدفَين، وتعتقد أن لديها بين داعمي الفريقين المتنازعين «أصدقاء»، تركيا وإيطاليا في الغرب، وإسرائيل والسعودية والإمارات وفرنسا في الشرق، سيسهّلون مثل هذا الأمر. معظم الأطراف الدوليين والإقليميين المشاركين في الصراع الدائر في ليبيا، مقتنعون بأنهم قادرون على إنفاذ أجندتهم في ظلّ المقاربة الحالية المعتمَدة من قِبَل الأمم المتحدة، تحت «تأثيرهم» بطبيعة الحال، على الرغم من احتمال العودة إلى مربع الحرب والانقسام نتيجةً لها.