تنامت، خلال السنوات الأخيرة، سطوة القضاء العشائري في فلسطين عموماً، وجنوبها خصوصاً، بفعل غياب الثقة العامّة بالقضاء المدني التابع للسلطة الفلسطينية، والذي يتّسم ببطء شديد في الإجراءات، وتفشٍّ كبير للبيروقراطية، وانعدام للاستقلالية، وتحيّز على أساس هويّات الأفراد وانتماءاتهم الحزبية وعلاقاتهم الشخصية. وممّا ساهم في تعزيز هذه الظاهرة، حقيقة أن القانون الفلسطيني يعترف بالأحكام العشائرية كأحكام صحيحة، فيما العكس غير صحيح، وهو ما يجعل ممكناً ملاحقة الشخص عشائرياً حتى بعد الحُكم عليه قضائياً. ومن هنا، انحدرت ثقة المواطن بالقضاء المدني، وصولاً إلى تفضيله القضاء العشائري لتحصيل حقوقه، على رغم الفساد المتفشّي في هذا الأخير أيضاً، في ما قد يُعتبر نتيجة طبيعية للفساد المستشري في نظام الحُكم ككلّ، والذي يُعدّ من أبرز وجوهه تجاهُل القانون المكتوب، ومناقَضة أحكامه، بناءً على ارتباط القضايا بمستوى أعلى في هيكلية الحُكم. ولذا، بات المجتمع ينظر إلى السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية على أنها عشيرة تمتلك قوانين ومواثيق شرف مختلفة عن تلك التي تمتلكها عشائره، وهو ما يؤدّي إلى تعميق الانسلاخ المجتمعي عن سلطة القانون، فضلاً عن تعميم الفساد ومأسسته. فالقاضي العشائري، مثلاً، يكتسب وزنه الرمزي من قوّته على الأرض وقدرته على فرض قراراته - التي قد تكون غير عادلة في كثير من الأحيان -، الأمر الذي يتجلّى في حصول الكثير من المتنفّذين في أنظمة السلطة، أو بسببها، على مراكز عليا في المجتمع، أفضت بدورها إلى رفْع قيمتهم العشائرية وانتشار الفساد في نظام العدالة القبَلي. وعليه، فإن ثُنائية القوانين الحاكمة للمجتمع، وانعدام ثقة الأخير فيها، يتسبّبان بالضرورة بظهور الاختلالات البنيوية، وتفشّي حالات الجريمة والعنف المجتمعي، والتي يُلاحَظ تناميها في أوساط الفلسطينيين بشكل متسارع، حيث يعمد الأفراد إلى فرض قوانينهم الخاصة، واستلاب الحقوق التي لا يستطيع القانون الدفاع عنها في ظلّ الوضع القائم.

لمحة تاريخية
يُعتبر القضاء العشائري في فلسطين امتداداً للقوانين القبَلية العربية القديمة، إلّا أنه خضع لتحوّلات عديدة متأثّراً بالتغيّرات الاجتماعية، من دون أن يتغيّر جوهره. وقد ظلّ، على مدار عقود، الخيار المفضّل بالنسبة إلى أفراد المجتمع، بدلاً من اللجوء إلى القضاء التابع للجهة الحاكمة - والتي غالباً ما كانت غريبة عن المنطقة -، وهو ما قوبل دائماً بغضّ طرف من قِبَل تلك الجهات، على اعتبار أنه يوفّر عليها جهوداً، ولذا لم تكن تصل إلى المستويات العليا إلا القضايا التي خرجت عن قدرة القضاء العشائري. واستمرّ هذا الوضع من ثُنائية القضاء، إلى نهاية الفترة العثمانية تقريباً. وفي فلسطين الانتدابية، اعترفت السلطات البريطانية بالمحاكم العشائرية، بل وأصدرت مجموعة من القوانين التنظيمية لعمل هذه المحاكم، محاوِلةً ضمّها تحت جناحها، وإعطاءَها حرية التصرّف بحدود، في ما يساوِق سياسة عامّة اتّبعتها بريطانيا الكولونيالية في غالبية المناطق الواقعة تحت سيطرتها الاستعمارية.
يكتسب القاضي العشائري وزنه الرمزي من قوّته على الأرض وقدرته على فرض قراراته


خلال مرحلة النكبة والتهجير، فقدت العشائر الفلسطينية الأساسية في الشمال الفلسطيني الكثير من سيطرتها وسيادتها، بفعل تهجير غالبيتها إلى دول الجوار. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أدّى الوضع الفلسطيني ما بعد عام 1948 وحتى عام 1967، إلى انقطاع التواصل بين العشائر التي توزّعت - إثر السيطرة المدنية المصرية والأردنية - على كلّ من الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع فرض القانون الأردني على الضفة، أضاعت العشائر جزءاً من الاعتراف القانوني الذي كانت تتمتّع به، بالنظر إلى أن الأردن يعترف بالقانون العشائري في حالة القبائل البدوية فقط، وهو ما أدّى إلى تراجع الفعل العشائري، على الرغم من بقائه قائماً في كثير من الحالات، خصوصاً منها حالات القتل وفضّ النزاعات بين العائلات المختلفة. لكن سقوط النقب تحت الاحتلال الإسرائيلي أفضى إلى نقل مركز ثقل العشائر العام في فلسطين، من النقب إلى الخليل، التي بقيت تحت الحكم الأردني في حينه، الأمر الذي جعلها مركزاً قبلياً حتى يومنا هذا.
وبعد سقوط بقيّة أرض فلسطين، بالإضافة إلى هضبة الجولان وصحراء سيناء، تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967، استعاد القضاء العشائري سيطرته مرّة أخرى، حيث قاطع الفلسطينيون محاكم الاحتلال وقوانينه، خصوصاً في جنوب فلسطين. وعلى إثر ذلك، قرّرت «منظّمة التحرير الفلسطينية»، في اجتماع مجلسها الوطني المنعقد في عمّان بتاريخ 22/1/1979، تأسيس ما يسمّى «الإدارة العامة لشؤون العشائر والإصلاح»، في محاولة لكسب السلطة القضائية الفعلية في الأراضي الفلسطينية إلى طرفها، وهو ما كرّرت فعله أيضاً بعد توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1994، حيث أصدرت الرئاسة الفلسطينية، في تشرين الثاني 1994، مرسوماً بتأسيس «دائرة شؤون العشائر والإصلاح»، وإلحاقها بمكتب رئيس السلطة.