دفع انسحاب «القوات المشتركة» المموّلة إماراتياً من الساحل الغربي لليمن، إلى خلط الأوراق السياسية، وإعادة رسم الخرائط العسكرية، في ما يحتمل أن يؤدّي لاحقاً إلى تبدُّلٍ على مستوى مواقف الأفرقاء الفاعلين، كما على مستوى الولاءات المحليّة. وبقرار أبو ظبي الانسحاب من الحديدة والساحل الغربي، تَسقط الحملة العسكرية التي شنّتها دول «التحالف العربي»، بدعمٍ مباشر من الغرب، واستطاعت في خلالها إحداث خرقٍ واسع، مكّنها، في عام 2018، من الوصول إلى شرق الحديدة، بهدف «قطع شريان الحياة عن صنعاء»، والتحكّم بأهمّ ميناء مدني يصل عبره الغذاء والدواء إلى أكثر من 20 مليون يمني، فيما انتهى الهجوم بإعلان الأمم المتحدة عن «اتفاق استوكهولم» الخاص بالمحافظة الساحلية.هكذا، أقفلت الإمارات ملفّ احتلالها للساحل الغربي عبر وكلائها، من دون أن تُقنع أحداً بجدوى خطوتها أو الأسباب التي دفعتها إليها. فهي لم تكترث أصلاً لكلّ الأصوات المعترضة والمتضرّرة، ولم تكلّف نفسها عناء تبرير التخلّي عن أهداف رفعتها أثناء غزوة الحديدة: خنْقُ صنعاء تمهيداً لإسقاطها؛ إذ اعتبر وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية في حينه، أنور قرقاش، أن «تحرير الحديدة، هو بداية نهاية الحرب. الاختيار في اليمن بين الدولة والميليشيا، بين الانضباط والعنف، بين السلام والحرب». وبشيء من الاعتزاز ونشوة النصر الموهومة، سوّلت له نفسه تصنيف اليمنيين، ومن يحقّ لهم حكم البلاد، ومن يجب إقصاؤهم، فقال إن «ثلاثة في المئة من اليمنيين لا يستطيعون حُكم بقية البلاد وتحديد مصيرها».
وفيما كانت صنعاء على علمٍ مسبق بخطوة الانسحاب وتوقيتها وأسبابها وآليات تنفيذها، جاء القرار الذي نفّذته «القوات المشتركة» بقيادة طارق صالح، صادماً للجميع، ومفاجئاً لوكلائه المحليّين، قبل أعدائه. أمّا اعلان «القوات المشتركة» أن الانسحاب جزء من مندرجات «اتفاق استوكهولم»، فزاد من الغموض والالتباس حول أهدافه والجهة التي تقف خلفه، وما إن كان قراراً صادراً عن غرفة عمليات «التحالف» أم أن الإمارات تفرّدت به، واستطراداً، وضع علامة استفهام كبيرة حول موقف السعودية، وما إن كانت على علم بخطوة حليفتها، وما إذا كانت الإمارات أصلاً تتجرّأ على المضيّ قُدُماً بقرار كهذا من دون علم الرياض.
أظهر الانسحاب العديد من المفارقات حول توقيته وسرعة تنفيذه


وإذا كان بيان «القوات المشتركة» وُضع في إطار إعادة التموضع والانتشار، فإن المعطيات على الأرض تفيد بأن غالبية القوات المنسحِبة، تموضعت في الشريط الساحلي بين مدينة المخا وباب المندب والمناطق الخلفية التي يمكن أن تؤمّن ظهر القوات المنتشرة على الخطّ الساحلي، أي مديريَّتي الوازعية والموزغ، غرب تعز. أمّا الأكثر تضرُّراً من خطوة الانسحاب، فهي القوى والفصائل المنضوية تحت جناح «التحالف» بفرعَيْه السعودي والإماراتي، والتي طرح سياسيوها ونخبها أسئلة صعبة ومعقّدة على الملأ في وسائل الإعلام المختلفة عن مصيرهم وسيناريو نهاية الحرب القاتم وفشل الرهانات على «التحالف» والأسباب الموجبة لهذا الانسحاب، في وقت كان من المنتظر فيه أن تخفّف هذه الجبهة عن مأرب، فيما تساءل آخرون عن الأثمان الباهظة التي دُفعت في سبيل الوصول إلى الحديدة. وعلَّق أحد النشطاء على ذلك بالقول: «كانت جبهات الساحل الغربي أكبر مهلكة ومجزرة لأبناء الجنوب، حيث فقدنا أضعافاً مضاعفة من الشهداء لتحرير الجنوب الذي استغرق ثلاثة أشهر، بينما الساحل سبع سنوات». وأضاف: «فقدنا عشرات الآلاف، حتى إنه بسبب كثرتهم لم يصرِّح ولو مرّة واحدة، قادة، بل مرتزقةُ وتجار الدم السلفيون، ممَّن يسمّون قيادات العمالقة، عن عدد الشهداء. لقد استغلوا فقر وعوز شباب الجنوب ليجعلوهم كبش فداء، وها هم اليوم ينسحبون تاركين كل التضحيات الجسام».
إلى ذلك، أظهر الانسحاب العديد من المفارقات حول توقيته وسرعة تنفيذه، إلى درجة أن الضباط على الأرض فوجئوا بالقرار، وحاول بعضهم التمرّد لولا تهديدهم بقصْف الطيران في حال لم ينفّذوا الأوامر، فضلاً عن عدم علم قادة الفصائل، ولاسيما «ألوية العمالقة» السلفية، و»ألوية المقاومة التهامية». والمفارقة الأخرى هي أن ما يسمَّى «الشرعية» التي تعتبر الجهة المسؤولة عن تنفيذ «اتفاق استوكهولم»، والتي شُنّت الحرب بدعوى تمكينها وإعادتها إلى صنعاء، بدت غائبة عن السمع كلياً، وآخر مَن يعلم بما يُخطَّط له من جانب أطراف فاعلين في تحالف العدوان. والأكثر غرابة في قرار الانسحاب، أن راعي «اتفاق استوكهولم»، أي الأمم المتحدة التي تتموضع قواتها للفصل بين القوات المتحاربة، نفت علمها المسبق بانسحاب «القوات المشتركة» من الحديدة.
يذكر أن الإمارات أعلنت، أكثر من مرّة، أن الحرب في اليمن انتهت، إذ غرّد ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، في حزيران من عام 2016، قائلاً: «وجهة نظرنا واضحة: انتهت الحرب بالنسبة إلى جنودنا. نراقب الترتيبات السياسية ونعمل على تمكين اليمنيين في المناطق المحرَّرة». لكنه تراجع في ما بعد، لتشكّل قواته رأس الحربة في الهجوم على الحديدة عام 2018. ولاحقاً، أعلنت أبو ظبي انسحاب قواتها العسكرية أكثر من مرّة، ليتبيّن أنها لا تزال تتموضع في العديد من الأماكن الحيوية في البلد. وفي أواخر الشهر الماضي، انسحبت قواتها من معسكر العلم القريب من مركز محافظة شبوة، وكان من المقرَّر أن تنسحب من منشأة بلحاف المطلّة على بحر العرب، غير أنها أجّلت قرارها خشيةَ سيطرة «حزب الإصلاح» عليها. وبدل الانتشار الواسع والمباشر للقوات العسكرية، سعت الإمارات إلى كسْب النفوذ في المناطق الساحلية اليمنية وفي جنوب البلاد، بهدف تعزيز حضورها عند خطوط الملاحة البحرية في خليج عدن ومضيق باب المندب والسيطرة على الجزر، ولا سيما جزيرتَي سقطرى وميون، وفي اتجاه القرن الأفريقي.