غزة | لا يُعدُّ الحديث عن بناء مدينة صناعية بمحاذاة معبر بيت حانون «إيرز» المحاذي لشمال قطاع غزة، لافتاً، إلّا في سياق التوقيت الذي جاء فيه، وخصوصاً أن المنطقة الصناعية تلك، كانت قائمة وتعمل بكامل طاقتها الإنتاجية قبل أن تدمرها إسرائيل بعيد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وتغلقها بشكل كامل عام 2004، بعد مسلسل طويل من القيود التي فرضت على دخول العمّال الغزيّين إليها.ما كشفته صحيفة «معاريف» العبرية أكد أن المشروع الذي أُنهي التخطيط له، وُضع، أخيراً، على طاولة مجلس الوزراء الإسرائيلي، وصنّاع القرار على المستوى الأمني. وذكرت الصحيفة أن الخطّة ــــ في حال تنفيذها ــــ ستشمل مصانع متعدّدة المجالات، تديرها الشركات الإسرائيلية بشكل مباشر، ويعمل فيها عمّال من قطاع غزة، لافتةً إلى أنه على رغم اكتمال تلك المخطّطات، إلّا أن الحكومة في تل أبيب لم تعطِ موافقتها النهائية بعد على هذه الخطوة التي لاقت ترحيباً كبيراً من رؤساء مجال مستوطنات غلاف غزة، وكذلك الجيش الإسرائيلي.
بالعودة إلى خصوصية التوقيت الذي يأتي في أعقاب جولة مباحثات غير منتجة، شاركت فيها الفصائل الفلسطينية مع جهاز المخابرات المصرية، انتهت مطلع تشرين الأوّل الماضي، من دون إحراز تقدمٍ يذكر في أيٍ من الملفّات العالقة، ولا سيما صفقة تبادل الأسرى، وملف الإعمار، والهدنة الطويلة الأمد. إضافة إلى ذلك، يأتي الحديث عن التوجّه الإسرائيلي بعد شهور من انتهاء معركة «سيف القدس»، والتي شدّدت بعدها سلطات الاحتلال من حصارها المفروض على القطاع، على نحو لم يشهده سكان غزة منذ عام 2015. بالنسبة إلى إسرائيل، فإن الهدف من بناء المنطقة الصناعية يوضحه مقال آخر نشرته «معاريف»، ورد فيه أن «الخطوة ستتمّ بمعزل عن الجهود المبذولة في القاهرة للتوصّل إلى صيغة مناسبة لصفقة تبادل أسرى مرتقبة، إذ تسعى إسرائيل من خلالها إلى تعزيز أمن المستوطنات الجنوبية، عبر التخفيف من احتقان الظروف الإنسانية في القطاع، والتي تنعكس في صورة توتّر ميداني يتدحرج في كثير من الأحيان إلى جولات مضبوطة، أو فعاليات شعبية متصاعدة».
تدرك المقاومة أن أيّ تحسينات اقتصادية ومكتسبات معيشية ليس هدفها المصالح الفلسطينية بحدّ ذاتها


الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب يرى أن انتهاج إسرائيل هذا المسار لا يعدو كونه إعادة استخدام لأساليب قديمة كانت مستخدمة أصلاً في أعقاب توقيع «اتفاق أوسلو» عام 1994، وهو النهج ذاته الذي تنظر إليه الحكومات الديموقراطية في الولايات المتحدة الأميركية. وقد حاول وزير الخارجية الأميركي في عهد باراك أوباما، جون كيري، دفْع حكومة الاحتلال آنذاك، إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية لسكّان القطاع، كمدخل لتثبيت الهدوء الميداني. يشرح أبو جياب، في حديثه إلى «الأخبار»: «تحاول إسرائيل تحقيق عدّة أهداف من إعادة بناء المنطقة الصناعية، أهمّها على المستوى القريب: ترغيب حماس والمقاومة في إنضاج الوساطة المصرية للوصول إلى صفقة تبادل أسرى تتنازل فيها المقاومة عن بعضٍ من شروطها التي تراها إسرائيل مستحيلة، إلى جانب تثبيت حالة الهدوء القائمة، التي من شأنها أن تعطي فرصة أكبر لنجاح حكومة بينت. كل ذلك إضافة إلى الاستفادة من طاقة العمالة الهائلة في غزة والتي يرغب الاقتصاد الإسرائيلي في توظفيها تلبيةً لاحتياجاته الخارجية».
غير أن مصطفى إبراهيم، وهو خبير في الشأن الإسرائيلي، يرى أن الخطوة الإسرائيلية بمعزل عن دلالاتها التكتيكية، تنطوي على مزيد من تعزيز الفصل بين الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة، والضفة الغربية، إذ سيعمل هؤلاء بمعزل عن القرار الفلسطيني في الضفة وغزة، وضمن بروتوكولات إسرائيلية صرفة. يكمل إبراهيم، متحدّثاً إلى «الأخبار»: «وهناك أيضاً أهداف أمنية يمكن تحقيقها، أهمّها مراعاة توصيات الدوائر العسكرية المخابراتية في جيش الاحتلال التي تعترض دائماً على خطوة دخول التجار والعمّال من غزة للعمل في الداخل المحتلّ، إذ ستوفر هذه المنطقة بيئة عمل مضبوطة أمنياً، لا تخترق العمق، وتراعي المصالح الاقتصادية لكل الأطراف».
من وجهة نظر المقاومة التي لم تعقّب على التوجّه الإسرائيلي الجديد، فإنها تدرك، وفق محمد المصري، وهو باحث سياسي، أن أيّ تحسينات اقتصادية ومكتسبات معيشية ليس هدفها المصالح الفلسطينية بحدّ ذاتها، بقدر ما هو تحقيق الهدوء الذي يحتاج إليه المستوى السياسي الإسرائيلي. يكمل المصري: «تريد إسرائيل من التسهيلات المعيشية التي تقدّمها إعطاء حكومة حماس ما تحرّض على المحافظة عليه، لتفكّر ألف مرّة قبل أن تتّخذ في قادم السنوات قراراً بخوض مواجهة مع الاحتلال، إذا ما اعتدى الأخير على أيٍّ من المقدّسات الوطنية». وفي ما بدا أنه تنفيس للمخططات الإسرائيلية، أصدرت «حماس» تصريحاً صحافياً في ذكرى اغتيال قائد أركانها، أحمد الجعبري، أكدت فيه أن يد المقاومة ستبقى مشرّعة للردّ على أيّ اعتداء إسرائيلي سيطال «أبناء شعبنا ومقدساته». وتابع البيان: «جاهزون لإعادة الكرة... فالمقاومة راكمت قدراتها وطوّرت إمكاناتها العسكرية التي مكّنتها من تثبيت قواعد الاشتباك وردع الاحتلال في حال إقدامه على تجاوز أيٍّ من الخطوط الحمر».