بغداد | أُريد للانتخابات العراقية الأخيرة أن تكون تدشيناً لعهد سياسي جديد يتكلّل بانسحاب أميركي متوقّع نهاية العام الجاري. لكنّ النتائج الأولية (حتى الآن لم تُعلَن بشكل نهائي) كانت إيذاناً بتحوّل كوابيس ما قبل الانتخابات، التي كانت تدور في الكواليس السياسية، إلى حقيقة واجهتها القوى المتضرّرة من النتائج، وفي مقدّمتها تلك الداعمة لـ«الحشد الشعبي»، إذ خسر «تحالف الفتح» ثلثي مقاعده، وانخفض تمثيله البرلماني من 48 مقعداً في انتخابات 2018، إلى17 مقعداً في الانتخابات الأخيرة. كان الانطباع الأوّلي أن النتائج خضعت لهندسة ذكية من الصعب اكتشافها، ومن الصعب فضحها أيضاً، على رغم وجود معطيات كثيرة تدلّ على التلاعب،
الفخّ الانتخابي
اضطرّت القوى «الشيعية» للقبول بتشريع قانون انتخابي في 24 كانون الأول 2019، على وقع الاحتجاجات الدامية التي شهدها العراق وقتها. وما ميّز القانون الانتخابي الجديد أنّه صُمّم على أساس الدوائر المتعددة، بواقع 83 دائرة، بينما خاضت القوى السياسية انتخابات 2018 في 18 دائرة انتخابية على أساس دائرة لكلّ محافظة. وعلى الرغم عدم رضى تلك القوى عن هذا التعديل الذي يراد منه مضاعفة حالة التشظّي في صفوفها، لكنها لم تكن الوحيدة ضدّ تمريره، في مقابل «التيار الصدري» ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، اللذين دعماه، إذ اعترضت عليه أيضاً القوى الكردية وقوى سياسية أخرى كـ«الحزب الشيوعي»، تراهن على استقطاب الأصوات المشتّتة في عموم الدوائر. وبعد نحو عشرة أشهر على إقرار قانون الانتخابات، أكمل البرلمان توزيع الدوائر الانتخابية، التي تضمّنتها المادة 21 من القانون، على أساس الكوتا النسائية البالغة 83 امرأة من أصل 329 نائباً، خلافاً للدستور العراقي الذي ينصّ على وجوب تحديد دائرة واحدة لكلّ 100 ألف مواطن عراقي.

اللاعب الدولي
تميّز القانون الانتخابي الجديد بمشاركة كلّ من رئاسة الجمهورية وبعثة الأمم المتحدة (يونامي) في تفصيله بشكله الحالي. وكان لمسؤولة البعثة، جنين بلاسخارت، دور بارز في رسم التفاصيل، خلافاً لأيّ انتخابات في العالم. وبتاريخ 28 أيار 2021، صوّت مجلس الأمن الدولي على مراقبة الانتخابات، بدعم فرنسي كان أعلنه الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأولى للعراق مطلع أيلول 2020. مثّل دخول العامل الدولي، متمثّلاً بمجلس الأمن، سابقة لم تشهدها الانتخابات العراقية، قُرئت على أنها تهيئة لـ«هندسة انتخابات»، بإشراف أعلى جهة دولية يصعب مع وجودها الطعن في النتائج. ولم يقتصر الدور الدولي على ذلك، بل تجاوزه إلى الجانب الفنّي العملياتي ليوم الاقتراع، الذي تأجّل من 6 حزيران إلى 10 شرين الأول 2021، فيما أعلنت «المفوّضية العليا المستقلة للانتخابات» أن الأمم المتحدة رشّحت لها 10 شركات للتعاقد معها لفحص وتشغيل أجهزة الاقتراع الإلكتروني، التي تدخل للمرّة الأولى بهذا الشكل الواسع. لاحقاً، اختارت مفوضية الانتخابات التعاقد مع شركة بريطانية (id Price water house coopers)، من بين شركتَين تقدّمتا للتعاقد معها، تمّ اقتراحهما من قِبَل الأمم المتحدة. لكنّ المفوضية اكتشفت أن الشركة البريطانية، المزكّاة أمميّاً، عبارة عن شركة وهمية يديرها عراقي له علاقات مشبوهة مع الطاقم الأممي المتواجد في بغداد، وأن الشركة لا تمتلك أصلاً إمكانية لفحص أنظمة الاقتراع الإلكتروني. ولذا، تمّ التعاقد مع شركة ثانية هي «Hensoldt» الألمانية لتولّي المهمة. وبحسب خبراء في المعلوماتية، فإن هذه الشركة لديها تعاون واسع وكبير مع شركة «دارك ماتر» الإماراتية، المتورّطة في عمليات قرصنة وتجسّس في الشرق الأوسط.

صدمة يوم الاقتراع
حاولت القوى «الشيعية» المؤيدة لـ«الحشد الشعبي» التكيّف مع القانون الانتخابي الذي عمل بشكل ذكي على تمزيق شارعها الانتخابي، وتشتيت الأصوات التي يُتوقّع أن تحصل عليها. لكنها اكتشفت متأخّرة ثغرات كبيرة تمكّنت عبرها الأيادي الخفية من تصميم النتائج بشكل يؤدي إلى شبه خسارة لـ«الفتح» وحلفائه، وصعود قوى مستقلّة أو معارضة للمقاومة إلى السطح. هنا، يجب عدم إنكار الأخطاء التكتيكية التي وقعت فيها القوى السياسية الحاضنة للمقاومة العراقية بإدارة ماكنتها الانتخابية وتوزيع المرشّحين بطريقة ذكية. لكن ذلك لم يكن عاملاً كافياً لإيقاع الخسارة التي تعرّض لها «الفتح» والقوى الحليفة له، كما يراد تسويقه من قِبَل القوى المنافسة أو حتى الأوساط الإعلامية المناهضة للمقاومة و«الحشد».

هندسة نتائج الانتخابات
بعد إقرار قانون مفصّل لهدف وحيد هو تشتيت أصوات «الفتح» وحلفائه لمصلحة منافسيه، الذين يتبنّون حلّ أو دمج «الحشد الشعبي» في المؤسسة العسكرية العراقية، جاء قرار مجلس الأمن الدولي كضامن دولي لعمل المفوضية التي شهدت «تطهيراً» واسعاً في صفوفها بعد أسبوع من إقرار قانون الانتخابات نهاية 2019. فقد تمّ إبعاد خبراء المفوضية، الذين تلقّوا تدريبات واسعة داخل العراق وخارجه، وأشرفوا على عدّة انتخابات دولية، بدعوى الانتماء السياسي، وتمّ استبدالهم بقضاة، خضعوا بدورهم للمحاصصة أيضاً، لكنهم بلا معرفة أو خبرة في إدارة ما أريد لها أن تكون أهمّ انتخابات في تاريخ العراق. في موازاة ذلك، تمّ استبدال المسؤولين الوسطيين داخل المفوضية، والذين يتولّون عادة العمل الفنّي والفعلي في عملية الاقتراع، ووضع المفاصل المهمّة تحت إدارة أجهزة الأمن والمخابرات، وأطراف أخرى معروفة بعدائها ومناوئتها لتحالف «الفتح» والقوى السياسية المقرّبة من المقاومة و«الحشد».

مجلس الأمن يبارك
على رغم محاولاته الإفلات من الفخاخ التي نُصبت له في القانون الانتخابي أو توزيع الدوائر، فإن تحالف «الفتح» وحلفاءه لم يتوقّعوا أن تأتي الضربة الموجعة والقاتلة من الإدارة الإلكترونية، التي أغفلوا سدّ ثغرتها، إلى يوم الاقتراع. فبحسب الإحصاءات الموثّقة، خرج أكثر من 20% من أجهزة الاقتراع في ساعات الذروة عن الخدمة، ما تسبّب بتراجع التصويت بشكل كبير، ولا سيما في مراكز ومحطات تمثّل الخزّان التصويتي للمقاومة. أضف إلى ذلك، إبطال وعدم احتساب نحو مليون ورقة اقتراع من أصل 9.6 ملايين مصوّت، إلى جانب التضارب في النتائج المعلَنة على مستوى المحطّات الانتخابية، وتلك المعلَنة من قِبَل المركز الوطني في بغداد.
بدوره، قدّم تحالف «الفتح» 22 طعناً فنيّاً في النتائج وأداء المفوضية يوم الاقتراع. وهي طعون يجب أخذها على محمل الجدّ والتحقّق من صدقيّتها. لكن المفوضية رفضت ذلك حتى الآن، متشبّثة بأعذار واهية قُرئت على أنها محاولة لفرض النتائج كأمر واقع. وبحسب الخبراء، فإن التلاعب بالنتائج لم يقتصر على الطرق التقليدية اليدوية التي كانت حاضرة بشكل واسع أيضاً، لكن يُعتقد أن أنظمة الاقتراع الإلكتروني تعرّضت بدورها للقرصنة أثناء نقل النتائج من محطّات الاقتراع في المحافظات، إلى المركز في بغداد، عبر قمر وسيط تديره شركة «دارك ماتر» الإماراتية. ومع استمرار الاعتراضات من قِبَل «الإطار التنسيقي للقوى الشيعية»، وتزايد علامات الاستفهام والشكوك الواسعة حول أداء المفوضية، جاءت تهنئة مجلس الأمن، بتاريخ 22 تشرين الأول، لتمنح الأخيرة صكّ العصمة من أيّ مساءلة وتُخلّصها من أيّ ضغوط، على رغم عدم الانتهاء من فحص الطعون وإعلان النتائج بشكل نهائي حتى اللحظة الراهنة.
ويسود اعتقاد واسع، في أوساط قيادات فصائل المقاومة، بأن دخول الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بدعم أميركي غربي، على خطّ الانتخابات بهذا الشكل الواضح، يهدف إلى عزل القوى المعارضة للوجود الأميركي. ولا يستبعد قادة المقاومة أن تكون محاولة العزل السياسي عبر الهندسة التي جرت على صناديق الاقتراع، هادفة إلى السماح ببقاء القوات الأميركية، تحت عناوين خادعة يمكن تمريرها بغياب القوى «الشيعية» في مجلس النواب أو ضعف دورها. ويضع قادة المقاومة المحاولة المزعومة لاغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ضمن سياق محاولات عزلها والإطاحة برأسها، ولا سيما مع البيانات المندّدة إقليمياً ودولياً بهذه العملية، على رغم الغموض الذي يلفّها والشكوك التي تحوم حول ملابساتها والأطراف التي قد تكون متورّطة في ارتكابها.