الخرطوم | على رغم ما يوحي به مشهد الانقلاب العسكري في السودان، من لُحمة تجمع الأطراف القائمين عليه، إلّا أن التدقيق في خارطة هؤلاء، الذين ينشط جميعهم في العمل السياسي والتجاري ويتنافسون في ما بينهم من جهة ومع القوى المدنية من جهة أخرى، يُظهر كمّاً من التعقيدات والخلافات التي لا يَبعد أن تؤول إلى الانفجار. وهي تعقيداتٌ كان أسّس لها النظام السابق طيلة ثلاثين عاماً من حُكمه، بدءاً من موافقته على انفصال الجنوب، مروراً بحروب جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وشرق السودان وما رافقها من بروز حركات متمرّدة كثيرة، وليس انتهاءً بإنشاء ميليشيات قبلية ودعمها بالمال والسلاح ومنح قادتها رتباً عسكرية على حساب الجيش، وعلى رأسها ميليشيات «الدعم السريع» (الجنجويد سابقاً) التي بات لها نفوذ كبير في المشهد، تَكرّس عقب إطاحة الرئيس عمر البشير في نيسان 2019. ولتكتمل الصورة، وقّع النظام الجديد (قبل الانقلاب الأخير)، في تشرين الأول 2020، «اتفاق جوبا للسلام» مع ثلاث حركات متمرّدة رئيسة، وأخرى منشقّة عنها أصغر حجماً، في 3 تشرين الأول 2020، سامحاً لقوّات تلك الحركات بدخول الخرطوم التي أضحت عاصمة للمسلّحين بامتياز، وغارساً بذلك بذوراً جديدة للاستقرار.
تحالفات داخل التحالفات
يُلاحظ الباحث في الأمن القومي النعيم ضو البيت، في حديث إلى «الأخبار»، أن «تحالفاً نشأ بين الحركات المسلّحة المتمرّدة سابقاً والمُوقّعة على اتفاق جوبا للسلام من جهة، والجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وميليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من جهة أخرى». ويُضيف أن هذا التحالف «عقد النيّة على إقصاء تحالف الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني والنقابات المعروفة بقوى إعلان الحرية والتغيير عن المشهد السياسي واحتكاره بالقوة الغاشمة، وبالفعل حدث ذلك عندما أذاع البرهان بيانه الانقلابي، وألغى كافة المواد المتعلّقة بالشراكة بين المكوّنَين المدني والعسكري في إدارة المرحلة الانتقالية، بينما أبقى على اتفاق جوبا مع الحركات المسلحة الداعمة له في خطوته الانقلابية». ويحذر ضو البيت من أن ما حصل «يعني ببساطة احتمال اندلاع حرب أهلية على أسس عرقية وجهوية، وتفكّك البلاد إثرها إلى دويلات ضعيفة وهشّة تسيطر عليها الميليشيات ولوردات الحرب، مثلما حدث للصومال وأفريقيا الوسطى خلال العقدَين الماضيَين»، عازياً ذلك إلى أن «الحركات المسلّحة الداعمة للانقلاب قائمة على أساس عرقي وجغرافي (جهوي)، إذ تمثّل قبيلة الزغاوة الأفريقية قوام حركتَي العدل والمساواة وتحرير السودان (جناح مناوي)، فيما ينخرط أبناء المجموعات العرقية العربية في إقليم دارفور في ميليشيا الدعم السريع التي قاتلت الحركتَين سالفتَي الذكر قتالاً مريراً ولسنوات عديدة في الإقليم. أمّا الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال (جناح مالك عقار)، التي تتّخذ موقفاً متحفّظاً تجاه انقلاب البرهان ولا تتحالف معه رغم توقيعها على اتفاق جوبا للسلام، فتضمّ قبائل إقليم النيل الأزرق جنوب شرقي السودان على حدود إثيوبيا ودولة جنوب السودان».
إذا ثبّت الانقلابيون سيطرتهم فإن الحركات المسلّحة التي لم تُوقّع «اتفاق جوبا» قد تعلن الحرب عليهم


في المقابل، ظلّت أكبر حركتَين مسلّحتَين، «جيش تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد محمد نور (إقليم دارفور) و«الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال» (جناح عبد العزيز الحلو) في إقليم جنوب كردفان، خارج المعادلة السياسة الانتقالية، بعدما رفضتا التوقيع على اتفاق جوبا، على رغم إعلانهما وقف إطلاق النار، وقبله مشاركة قواعدهما في الانتفاضة التي أطاحت النظام السابق، وبعده في الهبّة الشعبية الأخيرة ضدّ انقلاب البرهان. ومن هنا، يرى ضو البيت أن «المعادلة أصبحت كالآتي، إذا ثبّت الانقلابيون سيطرتهم على السلطة في الخرطوم، فإن الحركات المسلّحة التي لم تُوقّع اتفاق جوبا والداعمة للحراك الشعبي، فضلاً عن الحركة الشعبية/ شمال (جناح مالك عقار) المُوقّعة على الاتفاق والرافضة للانقلاب، ربّما ستعلن الحرب على التحالف الانقلابي المشار إليه سابقاً، وبالتالي يعود السودان إلى مربّع الحرب الأهلية التي انتهت بسقوط البشير». وينبّه إلى أن هناك أخطاراً أخرى تتمثّل في أن «التحالف الانقلابي نفسه شديد الهشاشة، نظراً للتناقض الكبير بين مكوّناته»، و«هو عبارة عن قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر مع أوّل خلاف بين مكوّناتها، فتشتعل حرب أهلية ذات صبغة عرقية وجهوية داخل الخرطوم». وحول هذا السيناريو، يتوقّع ضو البيت أن «يكون الصدام الأوّلي بين القوات المسلحة النظامية التي يسيطر على قيادتها ضباط من الشمال والوسط ينتمون عرقياً إلى المكوّنات العربية التي حكمت السودان منذ استقلاله بمن فيهم عبد الفتاح البرهان نفسه، وبين تحالف يضمّ قوات الدعم السريع وحركتَي العدل والمساواة وتحرير السودان (جناح مني أركو مناوي)، ويغلب عليه أبناء دارفور الذين لديهم طموح كبير في الحصول على السلطة في المرحلة القادمة»، مرجّحاً في الوقت عينه أن يكون الصراع مستقبلاً وارداً بين مكوّنات التحالف «الدارفوري» نفسه، نظراً إلى الانقسامات العرقية داخله. وبناءً عليه، يشدّد ضو البيت على ضرورة «عودة المكوّن المدني الذي جرى إقصاؤه عن السلطة من أجل الحفاظ على وحدة السودان، وتجنيبه حرباً أهلية».

دولة في قلب الدولة
من جهته، يعتقد الباحث السياسي، محمود نورين، أن الخطر الحقيقي على السودان يتمثّل في ميليشيا «الدعم السريع»، وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) ونائبه عبد الرحيم دقلو (شقيقه)؛ ذلك أن «الجيش يمكن إعادة بنائه، كما يمكن دمج الحركات المسلحة فيه بعد عقد اتفاقيات سلام معها، كما جرت العادة، بيد أن الدعم السريع حالة شاذّة في تاريخ البلاد السياسي والعسكري، باعتبارها مسمار جحا الذي تركه نظام البشير». ويلفت نورين، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «الدعم السريع هي الحاكم الحقيقي في السودان الآن، وما البرهان والمدنيون الذين أطاح بهم مؤخراً إلاّ محض بيادق لها»، محذّراً من أن «هذه الميليشيا هي المهدّد الأول والأخير لوحدة السودان، وهي التي ستكون السبب الرئيس في تفكيكه إلى دويلات فاشلة ومتناحرة». ويوضح نورين أن «الدعم السريع هي قوّة مرتزقة عابرة للحدود، ومزيج من الميليشيات العرقية والمشاريع التجارية الضخمة وشركات التعدين والنقل»، فضلاً عن أنها «مصنع ضخم لإنتاج وتصدير المرتزقة من أبناء القبائل في دارفور وتشاد والنيجر ومالي، وتضمّ بين صفوفها نحو 50 ألف عنصر مقاتل، أي تضاعفت 10 مرّات منذ تأسيسها بواسطة جهاز الأمن والمخابرات إبّان حكومة المخلوع عمر البشير، بموجب مرسوم رئاسي عام 2013». وبحلول عام 2017، سيطرت على نحو 40% من صادرات السودان من الذهب بحسب مصادر متطابقة، حيث امتلكت مناجم ضخمة في مناطق متفرقة من البلاد، أهمّها منجم «جبل عامر» في دارفور، فيما أسّس قائدها شركة «الجنيد» متعدّدة الأعمال لتمثّل تكتلاً واسعاً يغطي الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، إضافة إلى الإتجار بالمرتزقة وإرسالهم إلى مناطق النزاعات في اليمن وليبيا وأفريقيا الوسطى. ويتابع أن «حميدتي أصبح يمتلك أكبر ميزانية سياسية في السودان، مع أموال ضخمة يمكن إنفاقها على الأمن الخاص وتبييض الصورة ودفع رشًى وشراء ذمم وأنشطة أخرى، من دون الحاجة إلى تقديم حساب، أو دفع ضرائب ورسوم جمركية للحكومة». باختصار، «الدعم السريع هي دولة داخل دولة» بحسب نورين.