في الوقت الذي تَمضي فيه الكويت في حوار وطني مستمرّ منذ أسابيع، بحثاً عن استقرار سياسي افتقدته خلال السنوات العشر الماضية، يتّضح أن الركيزة الأساسية التي تركن إليها القيادة السياسية الجديدة، ولا سيما ولي العهد مشعل الأحمد الذي يلعب دوراً أساسياً في إدارة شؤون البلاد، هي المزيد من التقارب مع السعودية إلى حدّ التماهي. أمّا الخطّ الآخر لذلك المسعى، فهو تقارب مع «الإخوان المسلمين»، ظهرت ملامحه بعد إشادة «الإخوان» بالحوار الوطني الذي يُفترض أن ينتهي بعفو أميري خاص خلال الأسبوعين المقبلين، بهدف إنهاء الأزمة التي بدأت باقتحام مجلس الأمّة في عام 2011، عبر السماح بعودة النواب السابقين والناشطين السياسيّين الهاربين إلى تركيا. إلّا أن هذا التوجّه «الإخواني» أثار حفيظة معارضين آخرين اعتبروا أنه جرى استبعادهم لمصلحة صفقة عقدها جزء من المعارضة مع الحُكم
مرّة أخرى، تتمكّن القيادة السياسية الكويتية من شقّ صفّ المعارضة، في الوقت الذي ينتظر فيه الكويتيّون صدور قانون عفو خاص عن النواب السابقين والناشطين السياسيين «المهجّرين» إلى تركيا. وهذه المرّة، نجحت في استمالة نواب «الإخوان المسلمين» الحاليّين والسابقين، الأمر الذي أكّدته تصريحات النائب السابق جمعان الحربش، الذي أعلن تأييد الحوار مع الحكومة، قائلاً ردّاً على من يتّهمون المؤيّدين بأنهم استبعدوا معارضين آخرين وعقدوا صفقة جانبية، إن «الحوار الوطني لم يكن فكرتنا، وإنّما فكرة تكتّل النواب الـ31، والتي لاقاها سمو الأمير نواف الأحمد بدعوة الأطراف السياسية إلى حوار وطني بحضور مستشاريه، ثمّ إن الثوابت متّفق عليها بين نواب المعارضة، وخصوصاً أنه لن تكون هناك تنازلات على حساب الدستور». ويحظى الحربش، الذي يُعتبر أحد الرموز الصريحة لـ «الإخوان المسلمين»، بتأييد عدد من أبرز شخصيات المعارضة، مثل النائب السابق مسلم البراك، الهارب إلى تركيا، والذي كان رأس حربة في اقتحام مجلس الأمة. لكن آخرين أبرزهم النائب السابق فيصل المسلم يعارضون الصفقة، ويشكّكون في أن المؤيدين عقدوا اتفاقاً جانبياً مع الحكومة، تتخلّى بموجبه المعارضة عن مطلب إقالة رئيسَي الحكومة صباح الخالد الصباح ومجلس الأمة مرزوق الغانم. وبلغت الاتهامات المتبادلة بين المعارضين حدّ التخوين، وتلقّي مال سياسي من الحكومة. وعلى رغم أن نتائج الحوار لم تُعلَن بعد، ولا شروط العفو التي تقوم بإعدادها لجنة مكوّنة من رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بتكليف من الأمير، إلّا أن كلام الحربش قد يُفهم منه احتمال مشاركة المعارضة بعدد من الوزراء في الحكومة، إذ قال إن المعارضة في مجلس 2012 اتفقت مع رئيس الوزراء في حينه جابر المبارك على المشاركة، لكن الأخير تنصّل من الاتفاق، في إشارة إلى أن هذا الطرح ليس جديداً.
وظهر الخلاف داخل المعارضة إلى العلن، بعد أن أدلى النائب عبيد الوسمي ببيان موقّع من 39 نائباً في مجلس الأمة، يعلن فيه التوصّل إلى اتفاق في الحوار الوطني، يقضي بعودة جميع الهاربين إلى تركيا، بعد وضع شروط لذلك. وكانت القيادة السياسية تصرّ في السابق على أن يسبق العودةَ اعتذارٌ يقدّمه الراغبون فيها، وتعهّد بعدم ممارسة العمل السياسي، كما حصل مع النائبين السابقين وليد الطبطبائي وفهد الخنة ومجموعة من الناشطين. وعلى إثر صدور البيان المذكور، اتّهم عدد من النواب السابقين معدّيه باستبعادهم. ومن هؤلاء بدر الداهوم الذي أُبطلت عضويته، ودعَم ترشيح الوسمي عن مقعده في انتخابات فرعية جرت العام الحالي، على رغم أن الأخير ينتمي إلى قبيلة المطران بينما المقعد كان في الدائرة الخامسة التي تهيمن عليها قبيلة العوازم - في إظهار لوحدة المعارضة القبلية ضدّ الحكومة -، ونال في حينه أكثر من 92 في المئة من أصوات المقترعين. وعبّر فيصل المسلم عن رفضه الصريح للاتفاق، حين غرّد قائلاً إنه «حتى تفتح الكويت صفحة جديدة، وتخطو نحو مصالحة وطنية تأخذها إلى سماء التنمية والآمال، تحتاج عفواً كريماً عزيزاً بعيداً عن مرزوق وحلفائه، عفواً شاملاً لكلّ أبناء وبنات الكويت الأوفياء، عفواً حاسماً لا مؤجلاً، يمنع الفاسدين من ابتزاز المخلصين وإحكام قبضتهم على مؤسسات الدولة». وإذا تأكّد موضوع الاتفاق مع «الإخوان المسلمين» بصدور العفو، فسيكون هذا تغييراً أساسياً في السياسة تُحدثه القيادة الجديدة بقيادة الأمير نواف، وولي العهد مشعل الأحمد الصباح، الذي يُعتبر الرجل الفاعل في النظام.
قد يكون مشعل الأحمد مستعداً لتعديل في الركيزة الأساسية للحُكم


بالإضافة إلى العمل على خطّ شقّ المعارضة، تولّى مشعل الأحمد العمل على كسب السعودية التي تتدخّل عادة في السياسة الكويتية عبر القبائل، إلى جانبه، عن طريق مسايرتها إلى حدّ التماهي حتى لا تلجأ إلى استخدام المعارضة في سعيها لتحقيق أهدافها، كما حصل مرّات عدة، علماً أن مشعل يُقيم بالفعل علاقة وثيقة مع نظيره السعودي محمد بن سلمان، وقد زاره مرّتَين في السعودية خلال أقلّ من عام. ويشير الاتجاه نحو تحسين العلاقات مع السعودية إلى أن ولي العهد قد يكون مستعدّاً لتعديل في الركيزة الأساسية للحُكم، القائمة على التحالف بين القيادة السياسية والحضر السنة والشيعة وجزء من القبائل مِمّن تستطيع الحكومة استمالتهم، نحو توسيع إدماج القبائل في هذا التحالف. إذ يرى مشعل أن التوازن الذي رعاه الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، ما عاد ممكناً أن يستمرّ، نتيجة ضغط القبائل وتحالفها مع التيارات الإسلامية ولا سيما «الإخوان المسلمين» والسلف. وعليه، فإن التغيير في القيادة السياسية بوفاة الأمير السابق، يحتّم
تغييراً في الركيزة المشار إليها، خاصة أن نواف يعاني مشكلات صحّية تتطلّب تكرار الرحلات العلاجية إلى الخارج، وتحدّ من قدرته على ممارسة الحُكم عن قرب. وتسعى أسرة الصباح التي تعيش مثلها مثل غيرها من أنظمة الخليج، قلق الوجود في زمن التحوّلات التي تطال الجزيرة العربية بكاملها، إلى شراء استقرارها بثمن المصالحة مع المعارضة على أساس إعادة رموزها إلى البلاد، خصوصاً أن السنوات الماضية منذ عام 2011، تزامناً مع «الربيع العربي»، شهدت في معظمها عدم استقرار سياسي طبعته التحرّكات في الشارع.
وإلى جانب النفوذ السياسي، يقع المال أيضاً في صلب الخلاف بين المعارضة التي تستمدّ قوتها من تأييد القبائل، وبين السلطة. فمن بين البنود التي جرت تسريبات بشأنها، الدين العام الذي ترفض المعارضة إلقاءه على كاهل المواطنين، وتدعو إلى تحميله للدولة على اعتبار أن الإنفاق الحكومي المفرط خُصّص لمشاريع تشوبها شبهات فساد، واستفاد منه كبار التجّار المقرّبين من الحكومة. كذلك، طاولت تسريبات بنداً آخر يتعلّق بتحصين رئيس الوزراء من المساءلة، لكن الحربش نفى أن يكون موقّعو البيان قد وافقوا على مثل هذا المطلب. على أن الشرخ داخل المعارضة قد يهدّد الاتفاق برمته، إذا أصرّ المعارضون الرافضون له على موقفهم. إذ ستبرز حينها إشكالية عودة جزء من المعارضين وبقاء آخرين في الخارج، ما سيحرج الموافِقين أمام الرأي العام. وإذا كانت المعارضة الكويتية العريقة التي قدّمت أثماناً كبيرة حتى صار لها تأثيرها على الشارع، ستخسر كثيراً في حال ذهابها إلى اتفاق مع الحكومة وهي متفرّقة، فإن العديد من مطالبها، الكثيرة والمتشعّبة، يستحيل تحقيقها من دون وحدتها، علماً أن بعضها قد يؤدي إلى تغيير ديموغرافي في الكويت، كما هي الحال مع مطلب تجنيس أبناء القبائل من البدون.
الكويت في زمن التحوّل، والأسابيع والأشهر المقبلة تبدو فاصلة، فإمّا أن يتمّ تثبيت نتائج الحوار الوطني، وتُفتح صفحة جديدة في الحياة السياسية، وإمّا أن تعود المعارضة إلى الشارع بزخم أكبر، بعد الهدنة التي شهدها هذا النزال، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة في موسم الصيف.