يتطوّر الموقف الدولي إزاء الحدث السوداني، ليأخذ منحىً ضبابياً، يعزّزه عزوف الولايات المتحدة عن تصعيد موقفها من المكوّن العسكري الحاكم، فيما يبدو أن سلطة الانقلاب بدأت السير في إجراءات لتنفيذ المطالب الأميركية المقتصرة - حتى الآن - على ثلاثة، هي: وقف قتل المتظاهرين، وحريّة التجمُّع، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، في مقابل التلويح المتجدِّد باللجوء إلى عصا العقوبات الاقتصادية في سياق تحرُّك دولي تقول إنه «منسّق» مع حلفائها، ليبرز - توازياً - إعلان «البنك الدولي»، على لسان رئيسه، ديفيد مالباس، تعليق كافة «مساعداته» المخصّصة للسودان، إلى حين تقييم الوضع في هذا البلد.ويبدو أن قائد الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، تلقّف سريعاً المطالب الأميركية، فأقدم على إطلاق سراح رئيس الوزراء المُقال عبدالله حمدوك، فيما اكتفى الجيش بإطلاق الغاز المسيل للدموع على مظاهر الاحتجاج المتواصلة، في العاصمة وغيرها من المناطق، لليوم الثالث على التوالي، في موازاة الإعلان عن إعادة فتح مطار الخرطوم، والذي كان مقرَّراً تعليق جميع رحلاته لغاية نهاية الشهر الجاري. وبموافقته الإفراج عن حمدوك وإعادته إلى مقرّ إقامته، يزيح البرهان عنه عبء مطالبة «المجتمع الدولي» المتكرّرة بمعرفة مصير الرجل. وفي غمرة التطوّر «الإيجابي» هذا، اتصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بحمدوك، مهنّئاً بسلامته، ومكرّراً دعوة إدارته إلى القوات المسلّحة السودانية للإفراج عن جميع القادة المدنيين قيد الاحتجاز، وضرورة ضبط النفس، وتجنّب العنف في الردّ على المتظاهرين. وبرفع المطالب الثلاثة هذه، والتي باتت تتكرَّر - يومياً - على ألسنة جميع المسؤولين الأميركيين، من دون الإتيان على سيرة تعويم الحكومة المدنية، تطوي واشنطن صفحة «شراكة مريضة» لم يُكتب لها النجاح. وهو اتّجاه يجلّيه أوّلاً ما جاء على لسان مبعوث الولايات المتحدة إلى القرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، من أن البرهان وعده شخصياً بـ«الحفاظ على العملية الانتقالية قبل مغادرتي الخرطوم»، قائلاً: «إذا كان الانتقال هو في الأساس مصاباً بمرض، فيجب وصف العلاج الذي يتعامل مع المرض، ولا تُستخدم الأدوية لقتل المريض، وهو ما يحاول الجيش القيام به على ما يبدو»؛ وثانياً إعلان إدارة جو بايدن «التنسيق الوثيق» مع حلفائها الخليجيين، واتصال بلينكن بنظيره السعودي، فيصل بن فرحان، لمناقشة «أهمية التزام جميع الأطراف في السودان بالإطار المنصوص عليه في الإعلان الدستوري واتفاقية جوبا للسلام»، والتذكير بأن «الفشل في ذلك سيعرّض الدعم الدولي للسودان للخطر». وهو تذكير تساوق مع ما قاله مستشار الأمن القومي، جايك سوليفان، من أن البيت الأبيض «ينظر في جميع الأدوات الاقتصادية المتاحة» للتعامل مع الحدث السوداني.
برز موقف أوروبي عالي السقف، لا يتساوق مع مقاربة الولايات المتحدة لما حدث في السودان


وفيما يَظهر أن «التنسيق» الأميركي محصور برعاة الانقلاب، برز موقف أوروبي عالي السقف، لا يتساوق مع مقاربة الولايات المتحدة لأحداث فجر الاثنين؛ إذ عدَّت وزارة الخارجية الألمانية أن «الانقلاب العسكري» في السودان «تطوُّر كارثي» يضع البلاد في وضع محفوف بالمخاطر، فيما دان وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الانقلاب، مشدّداً على الالتزام بعودة المسار الديموقراطي، وملوّحاً بتعليق مساعدته المالية لهذا البلد، «إذا لم يَعُد الوضع فوراً إلى ما كان عليه». وانسحب التخبُّط الدولي، بطبيعة الحال، على جلسة مجلس الأمن التي عُقدت، أوّل من أمس، لبحث التطورات في السودان، وفشلت في التوصّل إلى اتفاق على موقف موحّد، إذ اعتبر نائب المندوب الروسي في الهيئة، ديمتري بوليانسكي، أنه يتعيّن على المجلس «الإعراب عن رفضه للعنف من جميع الأطراف في السودان»، فيما امتنع عن وصف ما حدث بأنه انقلاب، قائلاً إن «الانقلاب له تعريف محدَّد، ومثل هذه التطورات توجد في العديد من الدول وأجزاء كثيرة من العالم ولا توصف بأنها انقلاب».
وعلى خطّ التحرّكات المناهضة للانقلاب، أعلن «تجمّع المهنيين السودانيين»، في بيان أمس، أن عمال شركة «سودابت» النفطية الحكومية انضمّوا إلى حركة العصيان المدني على مستوى البلاد التي أعلنتها النقابات الأخرى، ردّاً على إطاحة الحكومة المدنيّة. ونشر التجمّع بياناً من اللجنة التسييرية لنقابة العاملين في «سودابت»، جاء فيه: «تعلن لجنتكم التسييرية الدخول في العصيان المدني الشامل وقوفاً مع قرار الشعب الداعم للتحوّل المدني الديموقراطي حتى تحقيق هذا المطلب»، فيما أعلن الأطباء أنهم سيبدأون إضراباً عاماً في مختلف أنحاء السودان. من جهتها، أعلنت جماعة من لجان الأحياء في الخرطوم خطّة لإقامة مزيد من المتاريس وتنظيم احتجاجات تصل إلى ذروتها يوم السبت في «مسيرة مليونية».