دمشق | بينما تَنتظر قوّات الجيش السوري الأوامر لبدء عمل عسكري لاستعادة السيطرة على الجيب الأخير المتبقّي على طريق «M4» على أطراف إدلب، وإعادة فتح الطريق الحيوي الذي يربط حلب باللاذقية، يتابع الجيش التركي حشد قوّاته، وتكثيف حملته الإعلامية ضدّ «قسد» التي يبدو أن رسائل أميركية جديدة وصلتها غيّرت مزاجها، حيث خفّفت واشنطن من حدّة تصريحاتها في انتظار ما سيقدّمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال اللقاء المزمع عقده بينه وبين نظيره الأميركي، جو بايدن، على هامش «قمّة العشرين» نهاية الشهر الحالي في إيطاليا. وأمام المخاطر الكبيرة التي تنتظر تركيا في حال كرّرت «خطأ» العام الماضي، عندما دخلت في مواجهة مباشرة مع الجيش السوري، بحثاً عن موطئ قدم على طريق «M5» (حلب - دمشق)، لينتهي المطاف بسيطرة دمشق على الطريق وفتحه، وإزاء الخريطة المعقّدة للشمال السوري التي فرضتها الحرب، والتي تسيطر «قسد» على أجزاء منها، يبدو أن أنقرة وجدت أخيراً ضالّتها في منطقتَي منبج وتل رفعت الواقعتَين خارج حسابات الإدارة الأميركية، وتحت الوصاية الروسية، بما سيضمن لها استمرار الإشراف على طريق «M4» الذي يمتدّ من الشرق السوري مروراً بمنبج وصولاً إلى حلب، ومنها يتابع نحو اللاذقية، ما يجعل المعادلة بالنسبة إلى تركيا كالتالي: خسارة جزء من الطريق وتمتين الحضور على الجزء الآخر. وتسيطر «قسد» على جيب صغير في منطقة تل رفعت، بالإضافة إلى منبج (غرب الفرات)، حيث تشهد هاتان المنطقتان مواجهات مستمرّة بين الفصائل المدعومة تركياً، والقوات الكردية، الأمر الذي دفع أنقرة إلى الحديث عن «اتفاقية أضنة» التي تسمح لها بالتوغّل قرب الشريط الحدودي السوري في حال وجود تهديدات كردية.ووسط هذه الأجواء المتوتّرة، أرسلت دمشق مجموعة رسائل مباشرة إلى أنقرة، آخرها تصريحات وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، الذي طمأن خلال لقاء تلفزيوني إلى أن بلاده، لدى استعادتها السيطرة على المناطق الحدودية مع تركيا، ستضمن للجوار عدم وجود أيّ تهديدات، بالتوازي مع تأكيده إصرار دمشق على استرجاع تلك المناطق جميعها. وعلى الرغم من التصريحات الأميركية المناوئة لتركيا وتحرّكاتها العسكرية ضدّ «قسد»، واتّهامها بـ«تقويض عمليات محاربة الإرهاب» في الفترة الماضية، لم تخرج عن الإدارة الأميركية أيّ مواقف جديدة معارضة للتحرّكات العسكرية في محيط منبج وتل رفعت، الأمر الذي دفع رئيس حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي»، صالح مسلم، والذي يشكّل حزبه العمود الفقري لـ«قسد»، إلى الحديث عن «مقاومة ستواجه تركيا»، وهو ما يُنذر بتكرار سيناريوات عديدة سابقة وجد خلالها الأكراد أنفسهم في مواجهة تركيا بمفردهم، بعد تخلّي الولايات المتحدة عنهم. وخلال الهجمات التركية السابقة، قدّمت دمشق عروضاً عدّة لتسلّم إدارة المناطق الحدودية وتجنيب الأكراد هذه الحرب غير المتكافئة، إلّا أن هؤلاء، وفي كلّ مرّة، رفضوا تسليم المناطق المذكورة، ليخسروها بعد بضعة أيام لصالح الأتراك.
يجد الأكراد أنفسهم أمام خيارَين: إمّا تسليم منبج وتل رفعت أو الإصرار على التمسّك بهما


وأمام هذه المتغيّرات، كثّفت روسيا تحرّكاتها واتّصالاتها بالقوى الكردية، في وقت أرسل فيه الجيش السوري تعزيزات إلى محيط تل رفعت، في ما يبدو أنه استعداد لانتشار سوري محتمل في المنطقة، في حال اقتنع الأكراد بعدم جدوى المواجهة العسكرية مع تركيا. ويعيد هذا السيناريو إلى الأذهان انتشاراً مشابهاً أجراه الجيش السوري في منطقة عين العرب الحدودية، حيث سيطر على المعبر الحدودي مع تركيا، وهو ما قد يحظى بقبول من أنقرة حالياً، كونه سيمكّنها من القول إنها أبعدت «الخطر الكردي». ويجد الأكراد، يوماً بعد يوم، أنفسهم أمام اختيار لا مناص منه: إمّا تسليم المنطقتَين للجيش السوري، خصوصاً أنه يتمركز في محيطهما، حيث ستتكفّل دمشق وموسكو بردع أنقرة التي لن تدخل في مواجهة معهما، أو الإصرار على التمسّك بالمنطقتين، ومواجهة تركيا مرّة أخرى في معركة محسومة لصالح الأخيرة، يبدو واضحاً أن أنقرة تفضّلها، كونها ستجد في هذه المواجهة، إنْ وقعت، فرصة سانحة لمضاعفة التوغّل في الداخل السوري.
وبينما تتابع روسيا مساعيها المستمرّة في مناطق شمال وشمال شرق حلب، تتمسّك بأولوية إدلب في الوقت الحالي، وترفض ما تقوم به تركيا عبر الربط بين الملفّات، والمماطلة في حلّ قضية إدلب، الأمر الذي يظهر بوضوح عبر التصريحات السياسية المستمرة حول «ضرورة القضاء على الإرهاب في إدلب»، والتي كان آخرها تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، أوليغ سيرومولوتوف، الذي قال إن «الإرهابيين يواصلون استخدام المدنيين في إدلب دروعاً بشرية، ويهاجمون الجيش السوري، ويحاولون باستمرار مهاجمة القاعدة الروسية في حميميم باستخدام طائرات بدون طيّار، وبطبيعة الحال لا يمكننا قبول هذا الوضع»، وتابع: «شركاؤنا يعرفون ذلك»، في إشارة مباشرة إلى تركيا. وعلى الرغم من ارتفاع حدّة التحرّكات العسكرية على جبهات مختلفة، ثمّة محدّدات عدّة لانتقال هذه التحرّكات إلى مواجهات، أبرزها الموقف الأميركي من السلوك التركي، ومقدار تعنّت الأكراد، في حين تنتظر دمشق وموسكو أن تفضي الديناميات الأخيرة بمجملها إلى سيطرة حكومية سورية على طريق حلب – اللاذقية، وتفتح الباب أمام استعادة السيطرة على منبج وتل رفعت، وفق تسويات سياسية تجنّب الجميع القتال.