برغم حرص البابا فرنسيس الأول على تأكيد الطابع الديني لزيارته إلى المنطقة، إلا أن إسرائيل ترى في جملة من محطاتها إيحاءات سياسية واضحة، قامت بالـ«الاحتجاج الهادئ» على إحداها، وهي عزم البابا على الاجتماع بمفتي القدس والديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين في إحدى باحات المسجد الأقصى، وهو المفتي الذي تأخذ عليه تل أبيب عددا من مواقفه، منها تبريره في الماضي «العمليات الانتحارية».
ومن الإيحاءات السياسية للزيارة أيضا حرص البابا على الانتقال من رام الله إلى داخل الخط الأخضر عبر المروحية، التي ستحط في مطار بن غوريون، حيث ستكون في استقباله القيادة السياسية الإسرائيلية، في إشارة فهمتها تل أبيب على أنها تعني إقرارا ضمنيا من قبل الفاتيكان بوجود كيانين سياسيين مستقلين. وفي السياق، كان هناك إصرار من الفاتيكان على التزام البروتوكول البابوي لجهة عدم لقاء رئيس الحكومة الإسرائيلي في ديوانه في القدس المحتلة، إذ تقرر أن تكون في فندق نوتردام، الذي يمتلكه الفاتيكان.
لكن البابا سيحضر حفلا تكريميا أعده له الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، في مقر إقامته بالقدس، حيث رفع أمس علم الفاتيكان إلى جانب العلم الإسرائيلي وفرشت السجادات الحمر على امتداد عشرات الأمتار في الباحة المخصصة للاحتفالات في المكان. ومن المقرر أن يلقي الإثنان أمام الحضور كلمتين بالعبرية والإيطالية، كما سيلتقي البابا في كنيس «هيكل سليمان» بالقدس الحاخامين الاكبرين لإسرائيل دافيد لاو ويتسحق يوسف. ويوم الإثنين سيزور البابا متحف «ياد فاشيم» الخاص بتخليد «الهولوكوست»، حيث سيشارك في حفل استذكار خاص ويلقي كلمة بالمناسبة. وسيقدم البابا إلى إدارة المتحف هدية هي عبارة عن نسخة من دفتر كان فتى يهودي يدون فيه قصائده داخل غيتو «لودج» في بولندا إبان الحكم النازي.
بيد أن الحدث الذي قد يكون الأهم من الناحية الدلالية بالنسبة إلى الدولة العبرية هو تضمن برنامج البابا سابقة لم يقم بها أي من الباباوات الذين سبق لهم أن زاروا الأراضي المقدس من قبل، وهي زيارة مقبرة «جبل هرتسل» في القدس، وهي المقبرة التي يدفن فيها كبار القادة والشخصيات الإسرائيلية، حيث يعتزم البابا وضع إكليل من الورد على قبر ثيودور هرتسل، مؤسس الحركة الصهيونية.
وأجمع المعلقون الإسرائيليون على أهمية هذا الحدث، الذي رأت فيه صحيفة «إسرائيل اليوم» تعبيرا عن الاعتذار عمّا وصفته بـ«الظلم التاريخي» الذي ارتكبه البابا بيوس العاشر، الذي رفض طلب هرتسل حين زاره عام 1904 دعم الحركة الصهيونية وأهدافها بإقامة دولة يهودية في فلسطين. ورأى حاخام الجالية اليهودية في الأرجنتين، أبراهام سكوركا، الذي يعد من أصدقاء البابا القدامى وسيرافقه في زيارته إلى إسرائيل أن زيارة قبر هرتسل يمكن فهمها على أنها لفتة باتجاه الصهيونية، واصفا إياها «بالفعل المهم الذي ينم عن فهم البابا لأهمية أرض إسرائيل ودولة إسرائيل للشعب اليهودي». واستنفرت إسرائيل أجهزتها الأمنية وسلطاتها البلدية لاستقبال الحبر الأعظم على وقع الخشية من تخطيط متطرفين يهود للتشويش على الزيارة الرابعة التي يقوم بها رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم للأراضي المقدسة. ومن المقرر أن يشارك 8500 شرطي إسرائيلي في عملية حماية الزيارة، التي أطلق عليها اسم «العباءة البيضاء»، التي توازي من حيث التشدد في الإجراءات عمليات الحماية التي ترافق زيارات الرؤساء الأميركيين إلى إسرائيل. وزيارة البابا فرنسيس الأول هي الرابعة التي يقوم بها حبر أعظم إلى إسرائيل. الأولى كانت للبابا بولس السادس في 5 كانون الثاني عام 1964 واستمرت 11 ساعة فقط. وفي حينه رفض البابا أن تُنظم له مراسم الاستقبال الإسرائيلية في القدس، انطلاقا من رفضه الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليها، فكان أن نُظمت في تل مجدو وحضرها كبار المسؤولين الإسرائيليين وتغيب عنها الحاخام الأكبر، إسحاق نيسيم، احتجاجا على تجنب البابا الحضور إلى القدس.
وكان الحدث الأبرز في الزياة اللقاء التاريخي في القدس، الذي جمع بابا الفاتيكان برأس الكنيسة الأرثودوكسية بطريرك القسطنطينية أثيناغورس، وهو الحدث الذي من المقرر أن يحيي البابا فرنسيس الأول يوبيله الذهبي من خلال لقاء القمة، الذي سيجمعه بالبطريرك الأرثوذكسي المعاصر برثولوميو الأول ضمن قداس مشترك في كنيسة القيامة بالقدس.
وخلفت زيارة بولس السادس خيبة أمل في إسرائيل، لأنها لم تؤد إلى حصول خرق في العلاقات مع الفاتيكان، وكان على تل أبيب أن تنتظر 30 عاما من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مع الفاتيكان عام 1994، لتَلي ذلك في عام 2000 زيارة استمرت خمسة أيام للبابا يوحنا بولس الثاني، الذي ينسب إليه الإسرائيليون واليهود عموما الدور الأبرز في تطبيع العلاقات بينهم وبين الفاتيكان والمسيحيين.
ولا يزال الإسرائيليين اليوم يحفظون للبابا يوحنا بولس الثاني إعفاءه اليهود من مسؤولية صلب السيد المسيح، وجثوه على ركبتيه أثناء زيارته معسكر «آوشفيتس» في بولندا طالبا المغفرة من الشعب اليهودي. الزيارة الثالثة إلى الأراضي المقدسة قام بها البابا بنيدكتوس السادس عشر في أيار 2009، الذي برغم تقديمه زيارة متحف «ياد فاشيم» على زيارة المواقع المقدسة للمسيحيين، يصر الإسرائيليون على استحضار شيئين كلما ذكروه: الأول، أنه كان ينتمي في صغره إلى «شبيبة هتلر»؛ والثاني، أنه ـــ بحسب أحد المعلقين الإسرائيليين ـــ «نسي أن يفعل ما توقعوا منه، أي طلب المغفرة من الشعب اليهودي»، إبان الخطاب الذي ألقاه في خلال الزيارة.