دمشق | يلتقي الرئيسان الروسي والتركي، اليوم، في سوتشي، في ظلّ تحوّلات متسارعة في المنطقة عموماً، وفي الملفّ السوري خصوصاً، ربّما تدفع نحو إيجاد تسويات نهائية للشمال السوري، وخصوصاً منه محافظة إدلب. وما يعزّز احتمالات النجاح في ذلك هو أن دمشق باتت متوفّرة على نقاط قوّة إضافية، تستطيع موسكو استخدامها بوجه أنقرة، فيما الأخيرة تشوب علاقاتها بحليفتها واشنطن مشاكل كثيرة، وتجد حاجتها ملحّة إلى تمتين صلاتها بالروس. وإذا ما أُرسيت بالفعل «تسوية إدلب»، ولا سيما لناحية فتح طريق «M4»، تكون سوريا قد خطت خطوة إضافية على طريق استعادة كامل أراضيها، توازياً مع جنيها ثماراً سياسياً أظهر جانباً منها اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة
وسط تطوّرات سياسية وميدانية متشابكة، يجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بنظيره التركي رجب طيب إردوغان، في سوتشي اليوم الأربعاء، لبحث ملفّات عديدة أبرزها الشمال السوري ومحافظة إدلب، التي شهدت تصعيداً عسكرياً خلال الشهرَين الماضيَين، وسط توقّعات بأن يفضي هذا اللقاء إلى حلّ قد يكون جذرياً لقضيّتها. ويأتي الاجتماع الجديد بعد أكثر من عام ونصف عام على قمّة مشابهة جمعت الرئيسَين في سوتشي (آذار 2020)، عندما سافر إردوغان إلى روسيا بعد تصادم عسكري بين جيشَي البلدَين على تخوم إدلب، خلال عمليات للجيش السوري استهدفت فتح طريق حلب – دمشق (M5) بالقوة، بعد أن نكثت أنقرة بتعهّداتها وفق «اتفاقية سوتشي» المُوقَّعة مع موسكو عام 2018، حيث تمكّن السوريون آنذاك من السيطرة على الطريق، فيما استهدفت طائراتهم قافلة تركية في منطقة بليون في إدلب، ما أدّى إلى مقتل وإصابة أكثر من 150 جندياً تركياً. وانتهت تلك القمّة، التي استمرّت أكثر من ستّ ساعات، بإضافة بروتوكول إلى «اتفاقية سوتشي»، تعهّدت بموجبه تركيا بفتح طريق حلب – اللاذقية (M4)، وإقامة منطقة خالية من الوجود المسلّح بعمق يسمح بتأمين الطريق، وعزل الفصائل المعتدلة عن الفصائل المتشدّدة وفق جدول زمني محدّد، وهو ما لم تَقُم به حتى الآن، الأمر الذي دفع موسكو إلى التذكير مراراً بعدم إيفاء أنقرة بتعهّداتها، ما أنذر بإمكانية تكرار سيناريو «M5»، وهو ما لا ترغب فيه تركيا.
اللقاء الجديد كان من المفترض أن يُعقد الشهر الماضي، إلّا أن بعض النقاط الخلافية بين روسيا وتركيا حول قضايا تتعلّق بأوكرانيا وملفات أخرى، تسبّبت بتأجيله، ليأتي الموعد الأخير على عجالة تركية بعد ارتفاع منسوب التوتّر السياسي بين أنقرة وواشنطن، على خلفية شراء الأولى منظومة «S400» الروسية للدفاع الجوي، وإخراجها من برنامج إنتاج مقاتلات «F35» والذي كانت تنتظر تركيا أن تحصل عليها، وهو ما ذكره صراحة إردوغان خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. واللافت في التصريحات التركية الجديدة، بالإضافة إلى ارتفاع حدّة الهجوم على واشنطن واتهامها بدعم مَن سمّاهم الرئيس التركي «إرهابيين» (في إشارة إلى قوات سوريا الديموقراطية الكردية)، إعلان أنقرة عزمها شراء منظومة «S400» جديدة في تحدٍّ مباشر لواشنطن التي تَعتبر أن هذه المنظومة تشكّل خطراً على حلف «الناتو»، في وقت تتعلّل فيه تركيا برفض تزويدها بمنظومة «باتريوت» الأميركية، وبامتلاك دول أعضاء في «الناتو» (أوكرانيا مثلاً) منظومات دفاع جوي سوفياتية بينها «S300»، من دون أن تتّخذ الولايات المتحدة أو «الناتو» ضدّها أيّ إجراءات.
يأتي لقاء بوتين ـــ إردوغان في وقت تشهد فيه دمشق انفراجات سياسية واقتصادية على عدّة صعد


كذلك، يتزامن هذا اللقاء مع مجموعة من المتغيّرات على الأرض السورية، أبرزها التكهّنات باقتراب موعد انسحاب القوات الأميركية من سوريا، والفراغ المتوقّع جرّاء ذلك والذي تتمنّى أنقرة أن تملأه، وسط رفض موسكو لأيّ نشاط عسكري تركي، وإصرارها على استعادة دمشق السيطرة على كامل الأراضي السورية، وهو ما أكده بوتين خلال استقباله الرئيس السوري بشار الأسد، قبل نحو أسبوعين، عندما قال صراحة إن «المشكلة الرئيسة تكمن في أن القوات الأجنبية موجودة في مناطق معيّنة من البلاد من دون قرار من الأمم المتحدة ومن دون إذن منكم (من سوريا)، وهو ما يمنعكم من بذل أقصى الجهود لتعزيز وحدة البلاد»، الأمر الذي يشير بشكل مباشر إلى الوجود الأميركي شرق البلاد، والتركي في الشمال والشمال الغربي. وفي الاتجاه نفسه، أكد وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاثنين الماضي، أن «موقف سوريا هو أن أيّ وجود أجنبي على أراضيها دون موافقتها غير شرعي، ويشكّل خرقاً سافراً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ولكلّ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة»، لافتاً إلى أن «الاحتلال التركي يمارس سياسة التهجير والتتريك»، و«يدعم المنظمات الإرهابية وعلى رأسها جبهة النصرة». وبينما تواجه أنقرة ضغوطاً متزايدة، تأتي قمّة بوتين ـــ إردوغان في وقت تشهد فيه دمشق انفراجات سياسية واقتصادية على صعد عدّة، أبرزها الانفتاح الأردني، واتفاقية تمرير الغاز المصري إلى لبنان عبر «خطّ الغاز العربي»، والتي جاءت بموافقة أميركية، بالإضافة إلى عودة التقارب مع دول عربية عدّة، وهو ما ظهر خلال اللقاءات التي أجراها المقداد على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ـــ والتي يُعدّ بعضها الأوّل من نوعه منذ نحو عشر سنوات ـــ وبينها لقاؤه وزيرَي خارجية مصر سامح شكري وتونس عثمان الجرندي.
وعلى المستوى الميداني، سبقت القمّةَ سلسلة من التحرّكات السورية على الأرض والروسية في الجو، حيث نفّذت الطائرات الروسية مجموعة من الغارات على مواقع انتشار الفصائل في ريف إدلب، على حدود منطاق التماس مع الجيش السوري في منطقة جبل الزاوية التي يُنتظر أن يتمّ إفراغها من المسلحين، كما استهدفت طائرة روسية معسكراً لفصيل «فيلق الشام» التابع بشكل مباشر لأنقرة في مدينة عفرين، في خطوة كانت مفاجئة بالنسبة إلى الفصائل المسلّحة. وبينما خرجت تصريحات تركية متفاوتة تَعتبر التحركات العسكرية على حدود إدلب «خرقاً» لاتفاقية خفض التصعيد، وسط استقدام تعزيزات عسكرية من الفصائل المسلحة والقوات التركية إلى إدلب، لم تعلّق تركيا أبداً على الغارة الروسية على عفرين، في وقت أطلقت فيه الفصائل بضع قذائف في محيط اللاذقية، وأعلنت القوات الروسية إسقاط طائرة مسيّرة انطلقت من إدلب وحاولت الوصول إلى حميميم. ويبدو أن روسيا أرادت استباق اللقاء برسائل ميدانية من الأرض مُوجّهة إلى أنقرة من جهة، وإلى «قسد» من جهة أخرى، عبر التأكيد على عدم وجود استثناءات، ورفض تحويل مناطق «غصن الزيتون» في أقصى شمال حلب إلى «ملاذ آمن» للفصائل المسلّحة تعيد فيها بناء نفسها لشنّ هجمات على مناطق أخرى، بالإضافة إلى تأكيد الحضور الروسي الرادع في مناطق الاحتكاك بين القوات المدعومة تركياً و«قسد»، خصوصاً مع ارتفاع حدة المواجهات بين الطرفين في الآونة الأخيرة في مناطق شمال شرقي سوريا.
وأمام هذه الظروف والعوامل، من المنتظر أن يؤدي اللقاء إلى وضع حدّ للمماطلة التركية، وإلى إعادة رسم المشهد الميداني في الشمال السوري عموماً، وفي إدلب على وجه الخصوص، بما من شأنه إعادة المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق بشكل تدريجي وتوافقي، وتجنيب جميع الأطراف الخوض في مواجهات عسكرية ستكون فيها تركيا والفصائل التي تدعمها في موقف حرج، خصوصاً في ظلّ توتّر الأجواء التركية ـــ الأميركية، وتعمّق حاجة أنقرة إلى تمتين علاقاتها بروسيا. وما يعزّز احتمالات التوصّل إلى حلول دبلوماسية، موجة التغيّرات «التهدوية» التي تشهدها المنطقة عموماً، وأبرزها الانفتاح المتصاعد على دمشق، والتقارب السعودي ـــ الإماراتي ـــ القطري، والحوار السعودي ـــ الإيراني، وعودة النشاط السياسي والاقتصادي المصري والعراقي في المنطقة التي تشهد أساساً عمليات إعادة هيكلة وتشكيل للتوازنات والتحالفات السياسية والاقتصادية.