اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها على نظرية «الردع» في مواجهة العرب، ومن أدواتها: اليد الطويلة، ونقل المعركة خلف الحدود، وغيرها. لكن الجانب الأقوى منها هو ارتكاب مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين والعرب في إطار سياسة «تدفيع الثمن» وإشعار الآخرين بالكلفة الباهظة لمقاومة الكيان الصهيوني.في «انتفاضة الأقصى»، ابتدعت المؤسسة العسكرية الصهيونية (رئيس الأركان السابق موشيه يعلون) مصطلح «كيّ الوعي» القائم على توجيه ضربات قاسية إلى المدنيين الفلسطينيين. الهدف من «المصطلح الجديد» تحديث أدوات «الردع» في عمق شخصية الفرد من جهة، وإنزال الهزيمة الثقافية والفكرية وترسيخ الشعور بالعجز في الذهن الجمعي الفلسطيني من جهة أخرى، وبعدم جدوى النضال الشعبي، بالإضافة إلى عقم خيار «الكفاح المسلّح» في استعادة الأرض وتحقيق حلم الدولة.
في المقابل، حرصت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في عدوان تموز 2006 على لبنان، على محاولة انتزاع رمزية التحرير عام 2000 من خلال الهجوم على مدينة بنت جبيل، لأن مجرد السيطرة عليها عسكرياً يمثل «كيّاً لوعي» المقاومة في لبنان وانهيار أسس خطاب الانتصار الذي ألقاه قائد المقاومة، السيد حسن نصر الله، في 25 أيار عام 2000 (إسرائيل أوهن من «بيت العنكبوت») .
في العدوان على اليمن، اندفعت السعودية بغريزة الثأر والغضب والشعور بالخيبة وفقدان الدور، واستحضرت وصية الملك المؤسس عبد العزير بن سعود، لابنائه «عزّكم في ذلّ اليمن، وذلّكم في عزّ اليمن»، وإن خروج هذا البلد من عهود الوصاية والهيمنة، سيؤهّله للعب دور حقيقي على مساحة الوطن العربي والإسلامي، ولا سيما أنه يمتلك موقعاً جيو استراتيجي يربط البحر الأحمر ببحر العرب وامتداداته على المحيط الهندي، بالإضافة إلى امتلاكه مخزوناً نفطياً هائلاً.
تدرك السعودية أن الشعب اليمني يمتلك قابلية عقلية وفكرية متقدة وثائرة إذا ما أتيح له الوصول إلى «أمهات المعرفة والعلم»، وأنه سيخرج من ذل الارتهان والخضوع، ليصبح مرجعية عربية أصيلة تستظل به بقية الشعوب العربية، ويزيده فخراً أنه يتربع على حضارة تمتد جذورها في أعماق التاريخ.
وإذا كانت إسرائيل تستمد نظرياتها التوسعية من المدارس العسكرية الغربية، فإن السعودية تزاوج بين نظريات الغرب «الحليف» والعقلية القبلية الصحراوية المبنية على الثأر والتسلط والاستعلاء.
ومن الأجدر أن يطلق على نظريات آل سعود العسكرية مصطلح «داحس والغبراء»، تلك الحرب في الجاهلية التي استمرت 40 عاماً، لأنهم ذوو عقلية قاصرة عن إدراك المصالح النفعية بين الأطراف بصورة متبادلة ومتساوية. هم أسرى الحقد الذي أعمى قلوبهم، وأفقدهم رؤية التحولات العالمية والإقليمية، والمقاربات التي كانت سائدة في العقود الماضية لم تعد صالحة لعالم الحداثة والمعرفة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا.
أطلق آل سعود العنان لآلة التدمير الممنهج للبنى التحتية اليمنية الرسمية والخاصة، فدمروا المستشفيات والمدارس والمساجد والمعالم الأثرية والحضارية، حتى أن أسواق المواشي لم تسلم من تدميرهم، وانتقلت مجازرهم بحق المدنيين على مساحة الوطن من دون أن تراعي حرمةً أو ديناً أو منطقة، ولم تفرق بين الأعراس، وسيارات الإسعاف، حتى أن الضحايا يتكرر قصفهم مرات للتثبت من مفارقتهم الحياة.
في الأسبوع الماضي حذّر المتحدث باسم العدوان، أحمد العسيري، المدنيين في صنعاء بالابتعاد عن المنشآت الحكومية، واصفاً إياها بأنها مقارّ «حوثية»، تلا ذلك زيادة غير مسبوقة بالغارات الجوية السعودية على العاصمة، فجرى إحصاء 120 غارة في ثلاثة أيام، طاولت مؤسسات مدنية وحكومية، بالإضافة إلى عشرات الغارات على بقية المحافظات التي أوقعت المئات من الضحايا في صفوف المدنيين.
زيادة الغارات الملحوظة جاءت بعد فشل العدوان على جبهات القتال. وبعد زيارة المبعوث الدولي إسماعيل ولد الشيخ لصنعاء حيث سمع كلاماً واضحاً من القيادات اليمنية تطالبه بالإيفاء بتعهده ترافق إجراء المفاوضات مع وقف إطلاق النار.
إن صمود الشعب اليمني وإنجازات الجيش و«اللجان الشعبية» والقيادة الحكيمة تمثل هاجساً سعودياً بعدم القدرة على إجبار اليمن على التنازل عن سيادته وحريته بغض النظر عن الأكلاف. فذهب العقل الأسود السعودي باستنساخ التجارب الإسرائيلية في عدوان تموز عام 2006 على لبنان باستخدام نظرية «عقيدة الضاحية»، التي كررتها إسرائيل في حروبها على غزة، بالتدمير الممنهج وضرب كل سبل الحياة في مدن اليمن وعاصمته صنعاء، وباعتماد سياسة واضحة لتدفيع الشعب ثمن صموده. وما إطالة مدة الحرب التي شارفت على السنة، إلا محاولة يائسة لكيّ الوعي اليمني الفردي والجمعي، وإشعار اليمنيين بالأكلاف العالية والباهظة إن فكروا مرة ثانية في التمرد على الوصاية السعودية.