القاهرة | هروب جماعي لأبناء الأسر الفقيرة من التعليم الحكومي الرسمي في مصر، إلى التعليم الأزهري. هذا ما تكشفه الأرقام غير المعلَنة رسمياً من جانب الحكومة المصرية ومؤسسة الأزهر، التي استقبلت معاهدها التعليمية، خاصة في القرى طلبات التحاق وتحويل غير مسبوقة، نتيجة زيادة الرسوم في التعليم الحكومي والتحوّلات التي طرأت عليه أخيراً، بما لا يتناسب وواقع الفقراء. وبحسب تلك الأرقام، فإن هناك نحو 300 ألف طلب التحاق بالتعليم الأزهري، من بينها 20 ألف طلب تحويل إلى المرحلة الثانوية، حصلت على موافقات استثنائية بعدما لم تكُن المؤسّسة تسمح بها من قَبل. واللافت بحسب تقرير رُفع إلى شيخ الأزهر أن زيادة الإقبال التي سَجّلت قفزة في الصعيد، امتدّت أيضاً إلى الوجه البحري، في تطوّر لم يكن يتوقّع النظام أن تقدر المؤسّسة على التعامل معه، خاصة في ظلّ نقص المباني والفصول مقارنة بأعداد المتقدّمين والمُحوَّلين.وإلى ما قبل سنوات قليلة، لم تكن نفقات العام الدراسي للطالب الواحد تتجاوز ثلاثة دولارات كحدّ أقصى، لكن اليوم، باتت هذه التكلفة تتجاوز 40 دولاراً في المرحلة الثانوية على سبيل المثال، مع إلزام الأهالي بضرورة سدادها قبيل بدء العام الدراسي على غرار ما تفعله المدارس الخاصة، وهو الأمر الذي دفع الأسر الأكثر فقراً للجوء إلى التعليم الأزهري، الذي لا يوفّر تعليماً مجّانياً فقط، بل أيضاً مساعدات للطلاب وعائلاتهم، ومنحاً مالية تعفيهم من المصاريف، كـ«منحة قابوس» المُقدّمة من سلطان عُمان الراحل، قابوس بن سعيد. يُضاف إلى ما تَقدّم أن وزير التعليم طارق شوقي بدأ بدعمٍ من الرئيس عبد الفتاح السيسي، إحداث تغييرات جذرية في المدارس الحكومية تستهدف التحوّل نحو التعليم الإلكتروني، في وقت تفتقر فيه القرى المصرية إلى المعرفة بالإنترنت وبأساليب التعلّم الجديدة، والتي اضطرّت الطلاب إلى دروس خصوصية بآلاف الجنيهات سنوياً (لن يحتاجوها في التعليم الأزهري)، بما يفوق قدرة العائلات، لاسيما في ظلّ استمرار ارتفاع تكاليف مستوى المعيشة وتدنّي الرواتب.
بدأت زيادة الإقبال على هذا التعليم تُسجَّل منذ العام الماضي، لكنها سجّلت قفزة كبيرة حالياً


ومع أن زيادة الإقبال على التعليم الأزهري بدأت تُسجَّل منذ العام الماضي، لكن تقارُب نسب النجاح في الثانوية العامة هذه السنة، بين التعليمَين الحكومي والأزهري، دفعت عائلات إضافية في توجيه أبنائها نحو الأخير، على رغم اتّسامه بالصعوبة مقارنة بالأوّل، وتعمّقه في دراسة أصول الدين وحفظ القرآن في المراحل التعليمية المختلفة. ولعلّ ما عزّز دوافع هؤلاء هو أن جامعة الأزهر تتوسّع في تطبيق الإعانات الاجتماعية لأبنائها، في وقت تنفّذ فيه الجامعات الحكومية عملية توسّع في الأقسام الدراسية ذات الرسوم المرتفعة، بما يجعلها ربحية من الدرجة الأولى. وحمل هذا الواقع شيخ الأزهر أحمد الطيب على اتخاذ قرارات استثنائية في ما يتعلّق بطريقة استيعاب الأعداد الجديدة المتقدّمة، لاسيما في مرحلتَي رياض الأطفال والإعدادية، اللتين يستقبل الأزهر تحويلات بأعداد كبيرة إليهما من المدارس الحكومية. ووافق الطيب على زيادة سعة الفصول لتصل إلى 50 طالباً، وفتح الفصول المغلَقة وتحويل الغرف المخصَّصة للمدرّسين والإدرايين إلى فصول دراسية، وإتاحة إمكانية العمل في بعض المعاهد بنظام التناوب (فترتان صباحية ومسائية)، فضلاً عن التوسّع في إنشاء المعاهد في المناطق التي تشهد إقبالاً أكبر من غيرها. كذلك، بدأ الأزهر قبول متقدّمين جدد، سواءً من المتخرّجين من جامعة الأزهر أو من الكليات الحكومية (مع إعطاء الأفضلية للأوّلين)، للعمل في المدارس، بالتنسيق مع وزارة التضامن الاجتماعي، مقابل مكافآت مالية مجزية مقارنةً بالمكافآت التي وضعتها وزارة التربية والتعليم، والتي لا تتجاوز 20 جنيهاً مقابل الحصّة الواحدة، في إطار سدّ العجز من المدرّسين من دون التوجّه إلى إقرار تعيينات جديدة.
المفارقة أن الإقبال على التعليم الأزهري لم يمنع وزارة التعليم من الاستمرار في خطّتها الرامية إلى «تطوير» التعليم الحكومي، خاصة في المرحلتَين الابتدائية والثانوية، سواءً في ما يتعلّق بالمحتوى أو بأنظمة الامتحانات أو بطريقة التعلّم. ويعتقد وزير التعليم أن خطّته تسير بشكل جيّد، وأن نتائجها ستكون ملموسة بعد عدّة سنوات، لكن في ظلّ هجرة الطلّاب من المدارس الحكومية، تزداد الفجوة بين السياسات المعلَنة وما يُطبَّق منها على أرض الواقع، في وقت تنحفر فيه فجوة موازية نتيجة إحالة آلاف المعلّمين إلى التقاعد من دون تعيين بدلاء لهم، سعياً إلى تخفيف الأعباء عن الجهاز الإداري للدولة.