فتحت هزيمة حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات التشريعية في المغرب، وما أعقبها من خسارة الحزب موقع رئاسة الحكومة بعدما احتكره طيلة عشرة أعوام، الباب واسعاً على نقاش داخلي حول أسباب تلك الهزيمة وحيثيّاتها. وإذ يبدو واضحاً أن الفشل الذي طبع أداء الحزب في الداخل، وتورّطه في ملفّ التطبيع مع العدو خدمةً لأهداف سياسية، مثّلا اثنين من أبرز أسباب سقوطه، فالأكيد أيضاً أن «إخوان المغرب»، شأنهم شأن فروع الجماعة في دول أخرى، ظلّوا يلعبون في هامش محدّد، بعيداً من امتلاك أدوات الدولة العميقة ونفوذها، وهو ما سهّل بشكل أو بآخر، عملية إخراجهم من المشهد
يوم كان يتحضّر للاحتفال بفوز حزبه بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية عام 2016، للمرّة الثانية توالياً بعد عام 2011، لم يَدُر في مخيّلة الأمين العام السابق لحزب «العدالة والتنمية»، وأوّل رئيس للحكومة المغربية في زمن «الربيع العربي»، عبد الإله بنكيران، أن «أيام الأفراح والليالي الملاح» ستمرّ سريعة. آنذاك، اعتبر بنكيران في تصريح متلفز، أن «الربيع العربي» مثّل عنصراً حاسماً وأساسياً في فوز «العدالة والتنمية» في الانتخابات، كاشفاً أن السرّ وراء استمرار حزبه على رأس الحكومة المغربية، وتمكّنه بذلك من أن يكون الحزب الوحيد ذي المرجعية الإسلامية الذي أكمل ولايته في المنطقة بعد تلك الأحداث العاصفة، يكمن في «خصوصية المملكة المغربية»، من بين عدّة أسرار أخرى أتى على ذكرها.
الآن، يُفتح باب النقاش على مصراعَيه داخل «العدالة والتنمية» حول هذه «الخصوصية»، بعد الخسارة المدوّية التي مُني بها الحزب أخيراً، حيث تقلّصت حصّته من المقاعد النيابية من 125 مقعداً في انتخابات عام 2016 حين حلّ أولاً، إلى 12 مقعداً فقط متذيّلاً القائمة، ليكون وقْع الصدمة في شارع عبد الواحد المراكشي في حيّ الليمون في الرباط، حيث المقرّ الرئيس لـ«العدالة والتنمية»، ثقيلاً بخسارة الأمين العام الحالي للحزب، رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، مقعده لصالح مرشّح مغمور، والحال نفسها بالنسبة إلى معظم «صقور» الحزب الذين أخفقوا في دوائرهم الانتخابية.
شكّل عام 2011 انعطافة كبيرة في مسيرة الأحزاب السياسية ذات الخلفية العقائدية «الإخوانية». وكما قال بنكيران، فقد حملت موجات «الربيع العربي» تلك التنظيمات إلى سدّة الحكم في كلٍّ من مصر وتونس القريبتَين، ما شكّل حافزاً قوياً لـ«إخوان المغرب» للنزول إلى الشارع، والمطالبة بـ«الشراكة». سريعاً، التقط الملك محمد السادس الإشارة، فانحنى أمام العاصفة، وتَرجم الفوز الكاسح لـ«العدالة والتنمية» في انتخابات عام 2011 (107 مقاعد)، تكليفاً للحزب الإسلامي بتشكيل الحكومة، مُطلِقاً مرحلة «التعايش» مع الوافدين الجدد إلى الحياة السياسية، والذين أرادوا لـ«الشراكة» أن تكون عنواناً ثابتاً لمسيرتهم في الحُكم. عملياً، نجح الملك ودولته العميقة في احتواء الموجة، وتطويع «العدالة والتنمية»، لكن ما بين أوّل فوز للحزب في عام 2011، وثاني فوز في عام 2016، تغيّر الكثير من الأمور، داخل المغرب وخارجه، إلى أن حان وقت إخراج «الإخوان» من المشهد عبر الباب ذاته الذي دخلوا منه: الانتخابات. هنا، تقول مصادر مواكبة، لـ«الأخبار»، إن دخول «العدالة والتنمية» إلى المشهد السياسي في المغرب جاء في مرحلة صعود نجم تيار «الإخوان المسلمين»، حيث تَشكّلت ظروف جعلت من وجودهم حاجة إلى الملك ونظامه. أمّا اليوم، وفي ظلّ تقهقر هذا الوجود في المنطقة، وبعد الفشل الذي طبع «التجربة الإخوانية» عموماً وفي المغرب خصوصاً، فإن التخلّي عنهم من دون انتظار ردّة فعل عكسية، سواءً داخل المملكة أو خارجها، بدا متاحاً بسهولة.
لم تنجح «الجماعة» في تقديم مشروع إسلامي بديل يدعم نهضة الأمّة ويحرّرها من الهيمنة الغربية


ولعلّ العامل الرئيس في إنضاج ظروف خروج «الإخوان» من المشهد، هو الأداء البائس للحزب في السلطة، والذي استدعى سخطاً كبيراً تُرجم بتراجع كبير في التأييد الشعبي، وكانت نتيجته خسارة مدويّة في الانتخابات الأخيرة. وفي هذا الإطار، تلفت المصادر إلى أن أداء حكومتَي «العدالة والتنمية» اتّخذتا قرارات غير شعبية في إدارة الأزمة المعيشية، وأخفقتا في تحقيق تنمية ونهوض اقتصادي حقيقي، كما فشلتا في تقديم نموذج خاص بالحزب منسجم مع خلفيّته الفكرية. لكن المصادر تتوقّف عند أمرَين تعتبرهما حاسمَين في تبدّل المزاج الشعبي المغرب: الأول، يتعلّق بإدارة ملفّ الأزمة مع الجزائر، حيث اتّسم أداء الحكومة المغربية بالكثير من العدائية، ما أدى أخيراً إلى قطع العلاقات بين الدولتَين الجارتَين؛ والثاني هو ملفّ التطبيع مع العدو الإسرائيلي، مع ما يحمله من حساسية مفرطة بالنسبة إلى الشعب المغربي. ولربّما يمثّل «تورّط» «العدالة والتنمية» في ذلك الملفّ انعكاساً لـ«العقلية المساوِمة» التي يتّصف بها الحزب، لناحية استعداده لتقديم الكثير من التنازلات في سياق رهاناته السياسية، التي «غالباً ما تكون خاطئة»، كما تعتقد المصادر، مشيرة إلى أن «إخوان المغرب» راهنوا على أن يفتح لهم التطبيع أبواب السفارات والبعثات الدبلوماسية في الخارج، ما يُدخلهم مرحلة «التمكين» في بلدهم.
لكنهم، شأنهم شأن «إخوانهم» في كلّ من مصر وتونس، فشلوا في تقديم مشروع إسلامي بديل يدعم نهضة الأمّة ويحرّرها من الهيمنة الغربية، ووقعوا في شرّ «البراغماتية» التي دفعتهم إلى التنازل بهدف «التمكّن والتمدّد»، بينما كانوا واقعاً يلعبون في هامش محدّد بين حاجة الأنظمة إلى الانحناءة، واحتكار «الدولة العميقة» مؤسّسات الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية والقضائية والتنفيذية، أي أنهم ظلّوا قابعين عملياً في المساحة الفاصلة بين «جواهر» الحُكم وجوهره. وإذ تعترف مصادر قريبة من «إخوان المغرب» بأن فرصة تاريخية قد لا تتكرّر قد ضاعت بالفعل، بدأت تنظيمات العمل السياسية التابعة فكرياً وعقائدياً للمدرسة «الإخوانية» تدعو إلى الشروع في ورشة مراجعة شاملة على الصعيدَين الفكري والتطبيقي، بالاستناد إلى المبنى الفكري لمؤسّسي المدرسة الأوائل، والذين غاب منهجهم عمّن حكموا باسم الجماعة منذ «الربيع العربي» وحتى اليوم.