اعتبر الرئيس السابق للاستخبارات العامة السعودية، تركي الفيصل، في مقابلة مع قناة «CNBC» قبل أيام، أن على الأميركيّين طمأنة السعوديّين ومختلف الدول الخليجية وتأكيد التزامهم بحمايتهم، خصوصاً بعد قرار «البنتاغون» سحْب بطّاريات «الباتريوت» من المنطقة، والانسحاب الفوضوي من أفغانستان. لعلّ الفهم المباشر لهذا التصريح هو في وضعه في إطار أهميّة الحماية الغربية لوجود الحكم في دول الخليج واستقراره، وهو كذلك فعلاً، بيد أن المقاربة الأوسع، والتسييق التاريخي الأعمّ، سيساهمان في فهم المزيد من الخلفيات والمآلات. للمفارقة، كان الملك فيصل في الستينيات، وفي ظروف إقليمية مشابهة، قد أدلى بالتصريح نفسه إبّان اعتزام البريطانيين التقليل من وجودهم العسكري في المنطقة، ملتمساً منهم إعادة النظر في هذا القرار، الذي كان مدفوعاً حينها بالأزمة التي عصفت بالجنيه الإسترليني في العقد ذاته، والتي حدت بالإنكليز إلى تنفيذ سلسلة انسحابات فوضوية بدأت من عدن كمنطقة استراتيجية عام 1967، خصوصاً إثر الإنهاك الذي تعرّضوا له بفعل عمليات «ثورة 14 أكتوبر»، وانتهت إلى الانسحاب من الدول الخليجية عام 1971 لتنال هذه الدول «استقلالها». ولم يكن الانسحاب البريطاني مصدر قلق لحكّام الخليج وحدهم، الذين - وبشكل شبيه باليوم - اقترحوا على بريطانيا تغطية تكاليف بقائها في المنطقة، بيد أن الأخيرة بيّنت لهم أهمية أن لا يقلّلوا من شأن تكاليف ذلك، بل إن الأميركيين حينها عاشوا القلق عينه، حيث كان تقاسم الأدوار الإمبريالية غربياً في غاية الأهمية لسير شبكة المصالح الرأسمالية العالمية، ليُعبّر الرئيس الأميركي عن فزعه من القرار البريطاني وما سيلحقه من أضرار بالمصالح الغربية ككلّ، وليكون ردّ لندن بأن البقاء يفوق قدراتها الاقتصادية وبأن عليهم القبول بواقع ضمور دورهم العالمي.
قرنان من المصالح الاستعمارية
إن تصريحَي الفيصل وأبيه الملك السابق يندرجان ضمن تعبيرات العلاقة التي تجمع الدول الخليجية مع القوى الغربية، وهي علاقة وان كانت تُختزل بالأهمّية النفطية، إلّا أنه من المهمّ توسيع بؤرة النظر إليها. فالأمير السعودي، حين يَطلب من الأميركيين إثبات الالتزام بهذه العلاقة التعاقدية ضمن معادلة الحفاظ على المصالح الاستعمارية في مقابل الحفاظ على الحكم، فهو يعيد التأكيد على علاقة ربطت النخب الخليجية بالقوى الغربية منذ القرن التاسع عشر، أي منذ ما قبل اكتشاف الثروة النفطية. إذ إن هذا الشكل التعاقدي يعود إلى عام 1798، مع توقيع الإنكليز أوّل معاهدة مع سلطان مسقط، والتي استهدفت حفظ مصالحهم بعد دخول نابليون إلى مصر ليمثّل منافسهم الإمبريالي الفرنسي تهديداً لتلك المصالح. آذن ذلك ببداية قرن ونصف قرن من المصالح البريطانية في الخليج، سواءً التجارية المباشرة المتمثّلة في ما تدرّه تجارة اللؤلؤ على أوروبا، أو المندرجة ضمن شبكات المصالح الاستعمارية والممرّات التجارية التي تربط الهند، «درّة التاج البريطاني»، بأوروبا. فخلال تلك الفترة، عقد الإنكليز اتفاقيات الساحل المهادن، واتفاقيات مع نخب البحرين وعمان والكويت، وصولاً إلى اتفاقية العقير مع الملك عبد العزيز آل سعود. ومثّلت هذه الاتفاقيات الشكل الظاهري للهيمنة الاستعمارية الغربية، عبر اصطناع نخب تعمل كالوكيل الإمبريالي، وتساهم في عمليات القمع المباشرة لانتفاضات السكان أو حتى تمرّد الشيوخ كما حدث في الشارقة. بيد أن النخب القبلية ذاتها، وبنسب مختلفة، عاصرت مخاض الضمور الإنكليزي بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الأميركيين، لتعمل على مسار تبديل عملية ضمان المصالح الغربية، ولكن الآن - ومع ظهور النفط - عبر عقود شركات التنقيب الأميركية.
ضمور المنفعة المباشرة لسوق الطاقة الخليجي سيجرّ الطبقات الحاكمة إلى البحث عن مصالح جديدة


أزمة الدور الجديد
خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كان الشكل الاستعماري الغربي يتمظهر في الوجود المباشر على الأرض للحفاظ على ديمومة تحويل الريوع الإمبريالية، مع تكوّن تشكيلات قبلية ذات امتيازات تعمل كالرقيب المتعاون مع الاستعمار لقهر السكان. إلّا أن هذا الشكل تَغيّر في أواخر القرن العشرين، لتكتسب هذه النخب صفة الدولة، وتنتهي عملية الوجود الغربي المباشر إلى عملية تكوين جيوش وقوات أمنية يشرف عليها الغربيون (حتى التسعينيات مثلاً، كان قائد الشرطة البحرينية بريطانياً)، لتصبح العلاقة نفعية متبادلة، وإن لم تكن متكافئة من حيث موازين القوى. كلّ ذلك اندرج ضمن الدور النفطي لدول الخليج، سواءً عبر رفد الغرب بالطاقة مباشرة، أو الدور المهمّ الذي تشكّله الريوع البترودولارية التي تُضخّ في السوق الرأسمالي العالمي. إلّا أن ضمور المنفعة المباشرة التي يمثّلها سوق الطاقة الخليجي للأسواق الغربية (أغلب مستهلكي النفط الخليجي هم الهند والصين لا الغرب)، وللعالم ككلّ في ظلّ تبدّلات سوق الطاقة، سيجرّ الطبقات الحاكمة الخليجية إلى البحث عن مصالح غربية جديدة للحفاظ عليها. ولعلّها اليوم، ومع فتح الأبواب للنيوليبرالية، تكون في تحويل البلدان إلى واحات استثمارية غربية تعمل على إعادة تدوير الدولارات. وهو تحويل لن تكون عملية استشراف مآلاته الشعبية على المدى الطويل ممكنة، خصوصاً في إقليم مقبل على متغيّرات وسياق دولي تبرز فيه أقطاب ومراكز قوى متعدّدة، وليكون السؤال يومها كيف للأمراء والملوك التماس الاطمئنان الغربي على عروشهم؟