يمثّل تحرير قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي محطّة مضيئة في الصراع المستمرّ مع العدو، كونه لم يَنتج من ترتيبات أو تسويات أو أثمان سياسية وأمنية تلقّتها إسرائيل، بل من فعل مقاوم تمكّن في ظلّ ظروف سياسية معيّنة من أن يدفع الاحتلال إلى التقهقر والانسحاب، وهو ما شكّل تتويجاً لسياق انتفاضة الأقصى. ومن بين ميزاته أيضاً، أن ساحة غزة تحوّلت عقبه إلى ميدان مقاومة بتكتيكات وأساليب أخرى، بمعنى أن القطاع لم ينكفئ على ذاته تحت شعار أنه استطاع تحرير نفسه، وأن على بقية المناطق الفلسطينية أن تقوم بدورها هي، بل تَعامل مع الحدث على أنه منطلَق نحو تحرير كلّ فلسطين. أمّا الميزة الثالثة، فهي أن مقاومة غزة طوّرت بعد الانسحاب قدراتها وخبراتها، إلى أن أضحت ندّاً نسبياً للجيش الإسرائيلي، وهو ما ثَبُت في أكثر من مواجهة، ومنها «سيف القدس»، التي أظهرت المقاومة خلالها أنها قادرة على شلّ الكيان الإسرائيلي من أقصاه إلى أقصاه، في ما يمثّل تتويجاً لمسار تراكمي من الجهد الذاتي، والمستند أيضاً إلى دعم محور المقاومة بقدرات وتجارب وتصميم، يؤسّس لمراحل مقبلة جديدة من الصراع.كلّ ما تَقدّم يفسّر سبب هذا الحصار المستمرّ المطبّق على قطاع غزة من البرّ والبحر والجوّ، كما يفسّر توالي المواجهات العسكرية في القطاع، والتي انعكست قناعات في وعي صنّاع القرار في إسرائيل. فمن جهة، استنزفت خيارات كانت تراوده حول إمكانية إخضاع غزة وردعها، بمعنى منعها من المبادرة والدفاع عن نفسها، فيما أفشلت سعي العدو للفصل بينها وبين وبقية المناطق الفلسطينية، أو مساومة أهل القطاع على لقمة عيشهم مقابل التخلّي عن دورهم في المقاومة. وما ينبغي التذكير به هنا هو مساحة غزة التي لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربّعاً، وعدد سكّانها البالغ مليونَين، وظروفها الجغرافية وأوضاعها الاجتماعية تحت الحصار، لأن ذلك يشكّل مؤشّراً قوياً إلى دور الإرادة في حركة الصراع، وتحقيق الندّية في مواجهة العدو نفسه الذي كان حسم حرباً في ستّة أيام مع عدد من الدول العربية، ولعلّ هذا هو ما يولّد لديه التردّد، ليس في مواجهة القطاع من الجوّ فقط، بل وأيضاً في التوغّل البرّي المحدود. باختصار، تجسّد غزة بكلّ ما مرّت به، تحوّلات الصراع مع كيان العدو، وتَغيّر قواعد المواجهة إزاءه. وما يضفي على الأمر دلالة هو أن قرار الانسحاب من القطاع لم يأتِ من شخصية إسرائيلية عادية، بل شخصية استثنائية في تطرّفها وعنصريّتها واستعدادها لفعل أيّ شيء، بما فيه الجرائم ضدّ الإنسانية، من أجل تحقيق أطماع إسرائيل في الأرض الفلسطينية، والمقصود أريئيل شارون. ولهذا المعطى أهمّية كبيرة جدّاً في الإشارة إلى أن القرار كان قسرياً، ونتيجة معادلة الكلفة والجدوى، وفقدان الخيارات الأخرى المجدية.
الانسحاب يشكّل نتيجة لمأزق الاحتلال، وليس مبادرة منه لتحريك مسارات مغايرة


ومنذ أن غادر آخر جندي إسرائيلي غزة في أيلول 2005، حدثت تغيّرات دراماتيكية في الميدان الغزّي: سيطرت فصائل المقاومة، وفي المقدّمة حركة «حماس»، على القطاع، وأبعدت سلطة رام الله عنه، كما شنّت إسرائيل عمليات عسكرية واسعة النطاق أكثر من مرّة، فيما تصاعدت قدرة الفصائل هناك، وتراكمت قوّتها العسكرية التي كانت مع الانسحاب تتمحور حول بندقية رشّاشة إلى أن وصلت الآن إلى قدرة صاروخية بإمكانها أن تستهدف تل أبيب وما بعدها بقوّة تدميرية لا يُستهان بها. مع ذلك، لا يزال الجمهور على تأييده انسحاب عام 2005، وهو ما يبدو أن صانعي القرار يتبنّونه أيضاً. فعلى رغم أن الجيش الإسرائيلي خاض حروباً متعدّدة في السنوات الأخيرة ضدّ غزة، إلا أن خيار إعادة احتلال القطاع لم يكن حتى مطروحاً على طاولة البحث في تل أبيب، وفي المرّات التي يجري فيها التداول به، يكون ذلك في سياق ترهيب المعارضين لخيارات الجيش، على قاعدة: إمّا تلك الخيارات، وإمّا احتلال غزة.
يشير أحد آباء خطة الانسحاب، عيبال غلعادي، الذي شغل منصب رئيس «قسم التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط» في الجيش الإسرائيلي، إلى أن إسرائيل وصلت مع قطاع غزة، وكامل الأراضي المحتلة عام 1967، إلى حائط مسدود لا يبدو أن هناك مخرجاً منه. ويلفت (معاريف 16/07/2005) إلى أنه شارك في نقاشات عديدة لدى أركان الجيش، الذي كانت كلّ جهوده وخططه وقدرته التشغيلية متركّزة على هدف واحد: منع مزيد من التصعيد في الوضع الأمني مع الفلسطينيين، ومنع مزيد من الخسائر. ويكشف أن الأركان العامة رسمت لنفسها ثلاث ساحات نظرية في المناطق (المحتلة): «كان لدى الجيش الإسرائيلي حينها خريطة تحكّم تحتوي على ثلاثة ألوان: الأحمر والرمادي والأخضر. اللون الأحمر يرمز إلى حرب تتخطّى الخطوط الحمراء، تؤدّي إلى تدهور خطير في الوضع وصدام إسرائيلي مع السلطة الفلسطينية (بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات)، ما يؤدي إلى فوضى في المناطق (المحتلة)، وبشكل عام، تكسير عام للأدوات. لم يكن أحد في الأركان العامة يريد الوصول إلى المنطقة الحمراء. اللون الأخضر يرمز إلى القطب الآخر: استئناف المفاوضات السياسية تحت نيران الصراع والإرهاب. هنا، أيضاً، لم يرغب أحد في أن تصل الأمور إلى هذه النقطة، ما يعني أنه بقيت لدى الجيش منطقة اللون الرمادي الذي كان يميّز، في الواقع، الوضع الحقيقي على الأرض: مواجهة محدودة ومدارة، يتغلّب فيها الطرفان على بعضهما البعض في إطار مقبول نسبياً: الفلسطينيون يشنّون عمليات انتحارية وغيرها، ونحن نعمل على إيقافهم، وهكذا دواليك، فكانت حلقة مفرغة لا عبور إلى خارجها. في هذه المنطقة الرمادية، أراد الجيش الإسرائيلي البقاء، وليس الانزلاق منها يميناً أو شمالاً». هذا الواقع دفع غلعادي إلى التساؤل: «مع كلّ القوة الإسرائيلية، والأولوية الحاسمة على الفلسطينيين بجميع المعايير العسكرية والاقتصادية والسياسية والقدرة الدولية، مع كلّ هذا، لدينا فقط خيار واحد نناضل لأجله: المنطقة الرمادية؟ ألا يوجد خيار آخر؟»، ليجيب بأنه تبلورت لديه خطّة جديدة، تتمثّل في الانفصال عن الفلسطينيين ومنع الاحتكاك المباشر معهم، وهو ما عرضه على شارون، وقاد إلى تعيينه رئيساً للتنسيق والاستراتيجية في مكتب رئيس الوزراء، لتنفيذ خطة فكّ الارتباط عن غزة، عام 2005. في الواقع، نظر غلعادي إلى النتائج وليس الأسباب، وهو حاول عبر خطّته، وتحديداً في القطاع، احتواء تداعيات الصراع، بعد أن استهلك الاحتلال خياراته. إلا أن ما طرحه مثّل أيضاً هروباً من الواقع نفسه الذي اشتكى منه. وهنا، يجب النظر إلى المسألة عبر صورتها العامة، حيث الانسحاب يشكّل نتيجة لمأزق الاحتلال، وليس مبادرة منه لتحريك مسارات مغايرة بعد أن ثَبت لديه فشل خياراته الابتدائية.
في الخلاصة، وبالنظر إلى الانسحاب من قطاع غزة في سياق استراتيجي أوسع، يتبيّن أن إسرائيل التي اجتاحت لبنان عام 1982، بهدف تدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، إضافة إلى أهداف توسّعية تتّصل بلبنان نفسه، أرادت أيضاً تصفية القضية الفلسطينية عبر فرض حلول استسلامية بشأنها، وإنهاء كلّ ما يتّصل بها. إلا أن النتيجة النهائية كانت أن المعركة انتقلت من الحدود (لبنان وسوريا وسابقاً الأردن ومصر) إلى داخل فلسطين التي استطاعت فرض الانسحاب من غزة. ذلك هو المسار، وتلك هي النتيجة، أمّا فذلكة الأسباب المتّصلة باستراتيجيات يتحدّث عنها البعض، فلا صلة لها بالواقع. فعل الانسحاب لم يكن يخطر على بال أيّ من القادة الإسرائيليين، ولعلّ أصعب ما فيه على الكيان، أنه اقترن بتطوّرات إقليمية أفضت إلى تشكّل محور مقاوم وحاضن للقضية الفلسطينية، لا يفتأ يسلك مساراً تصاعدياً.