ثمّة أسئلة ستتردّد لوقت طويل - ومع كلّ أزمة - حول مصير صناعة النفط، وموقعها في الاقتصاد العالمي. ومِن هذه الأسئلة ما يُثار في شأن «الذروة النفطية» (ذروة الطلب وليس الإمدادات)، لتأتي الإجابات متباعدة، ومتضاربة أحياناً. يجلّي هذا «الخلاف»، التقديرات المتفاوتة لأقطاب الصناعة النفطية: ففي حين تُقدِّر شركتا «بريتيش بتروليوم» و«شِل»، مثلاً، أن العالم تجاوز ذروة النفط في عام 2019 عند مستوى 100 مليون برميل يومياً و«لن يصل إلى هذا المستوى مرّة أخرى بسبب التغيّرات الهيكلية الناجمة عن الأزمة الوبائية»، تبدو «منظمة الدول المصدّرة للبترول»، «أوبك»، متيقّنة مِن أن الطلب العالمي على الخام، سيبلغ ذروته مع نهاية العقد المقبل، فيما تشير توقعات مؤسّسة «ديت نورسك فيريتاس»، «دي أن في»، لعام 2020، إلى أن الوباء الذي لا تفتأ تداعياته تُثقل الاقتصاد العالمي، سيقود إلى ذروة الطلب، ويُحتمل ألّا يتجاوز استهلاك الخام مستويات عام 2019 أبداً. وفق تقديرات «صندوق النقد الدولي»، يتغاضى الرأي القائل ببلوغ الطلب على النفط ذروته، عن الزيادة الهيكلية في الاستهلاك التي سـتعوّض، في نهاية المطاف، أيّ تحوّل هبوطي ناجم عن الوباء. ويركن أنصار الرأي المقابل، من جهتهم، إلى الانفراجة التي حقّقتها اللقاحات المضادّة لفيروس «كورونا»، وما نتج منها من إعادة اشتغال محرّكات الاقتصاد العالمي، وتالياً تعافي الطلب على النفط، وإن بمستوى أقلّ من ذاك الذي كان سائداً قبل الجائحة - أي ذروة الطلب على النفط (97.9 مليون برميل يومياً).عن هذا الجدل المستمرّ، يعلّق الخبير في أسواق الطاقة، مايكل لينش، قائلاً إن «كثيرين ممَّن كانوا يؤمنون إيماناً راسخاً بحدوث ذروة إمدادات النفط، يدعمون الآن الرؤية التي تفيد باقتراب ذروة الطلب على النفط». وينطلق في رفضه الرأي القائل ببلوغ الطلب ذروته، من الأزمة النفطية التي سبّبتها الثورة الإيرانية في عام 1979، حين تعامل المراقبون معها باعتبارها دليلاً على «ندرة الموارد»، وليس انقطاعاً في بعض الإمدادات. ومن ثمّ جاء انهيار أسعار النفط، في عام 1998، على خلفية الركود في جنوب شرقي آسيا وحرب الأسعار بين السعودية وفنزويلا، كـ«دليل» على احتمال استمرار انخفاض أسعار النفط، إذ خرجت مجلة «إيكونومست»، في ذلك الوقت، بغلاف يعكس هذه الرؤية بعنوان «الغرق في النفط». بحسب لينش، بلغ الطلب على النفط ذروته من قبل، خلال فترات ارتفاع الأسعار أو الركود أو كليهما.
يشهد العرض والطلب على النفط حالة توازن، في وقت لا تزال منظّمة «أوبك» وحلفاؤها يتبعون سياسة كبح الإنتاج

لكن التساؤلات تزايدت في العامين الماضيين، عن احتمال أن تكون الأزمة الوبائية تسبّبت بالفعل في إحداث التغيير المتوقَّع في ميزان الطلب على النفط، وأن يكون هذا التحوّل أصبح مسيطراً على المنتجين داخل «أوبك»، بعدما خفّض الإغلاق العالمي بمقدار الثلث الاستهلاك اليومي من الخام (2020)، في حين يُتوقَّع أن تؤثّر زيادة استخدام السيارات الكهربائية والتحوّل إلى مصادر الطاقة المتجدّدة على الطلب في الآجال الطويلة. هذه العوامل دفعت المراقبين إلى التساؤل عمّا إذا كان انهيار الطلب الذي شهده العالم، قبل عام، مقدّمة لتحوّل دائم. في هذا الإطار، تلفت وكالة «رويترز» إلى أن دول «أوبك»، كانت، قبل 12 عاماً، تتمتّع بسيولة نقدية عالية، حينما تجاوز سعر البرميل الواحد 145 دولاراً، فيما تواجه راهناً تحوّلاً جذريّاً، بعدما دخل الاستهلاك مرحلة تراجع دائم، ما سيضطر المنظمة إلى أن تكون أكثر إحكاماً في إدارتها التعاون مع المنتجين الآخرين، مثل روسيا، في حال أرادت تعظيم إيراداتها المتراجعة. كما سيتعين عليها العمل، لضمان عدم تدهور العلاقات في داخلها بفعل اندفاع أيّ طرف للدفاع عن حصّته السوقيّة (الإمارات نموذجاً)، في ضوء تقلّص الطلب، من دون مراعاة مصالح بقية الأعضاء. لكن «أوبك» تصرّ على أن الطلب العالمي على النفط لن يبلغ ذروته قبل 2030، منطلقةً في تنبؤها هذا من توقّعات تشير إلى أن الجائحة ربّما تمثّل نقطة تحوّل لذروة الطلب. وبحسب المنظمة، سيرتفع استهلاك الخام إلى 107.2 مليون برميل يومياً في 2030 من 90.7 مليون برميل يومياً في 2020، بانخفاض 1.1 مليون برميل يومياً عن توقعاتها لعام 2030، وبما يقلّ عشرة ملايين برميل يومياً عن توقّعها في عام 2007 للطلب في 2030. ويفيد التقرير الذي يستشرف الفترة بين 2019 و2045، بأن «الطلب العالمي على النفط سينمو بمعدّلات قوية نسبياً خلال الجزء الأول من فترة التوقعات قبل أن يستقرّ خلال النصف الثاني»، مع ترجيح أن يظلّ «الطلب المستقبلي دون التوقعات السابقة بفعل الآثار المستمرّة لإجراءات الإغلاق المرتبطة بكوفيد-19 وتأثيرها في الاقتصاد العالمي وسلوك المستهلكين».
يشهد العرض والطلب على النفط حالة توازن، في وقت لا تزال منظّمة «أوبك» وحلفاؤها يتبعون سياسة كبح الإنتاج، ما دفع الأسعار صعوداً (متوسّط 70 دولاراً للبرميل)، بعد وباءٍ وحرب أسعار تسبّبا في انخفاضها العام الماضي. ويبدو، وفق «وكالة الطاقة الدولية»، أن هناك دورة عملاقة جديدة لأسعار النفط - وهي فترة ممتدّة تتجاوز خلالها الأسعار اتجاهها العام طويل الأجل - في طور التكوين، مدفوعةً بنقص الإمدادات بفعل نقص الاستثمار في إنتاج النفط الصخري، ونمو الطلب الناتج من التعافي القوي في بلدان مثل الصين، وحزمة التحفيز الاقتصادي في الولايات المتحدة، والتفاؤل العالمي في شأن اللقاحات. ولبعض هذه العوامل، تقول الوكالة، مكوّنات دائمة يُرجَّح أن يفوق تأثيرها الضغوط الخافضة للاستهلاك، والتي أصبحت جزءاً من الوضع بعد «كورونا». ومع هذا، ربّما تكون هذه هي آخر دورة عملاقة لأسعار النفط، ذلك أن الاقتصادات الكبرى تبدو ملتزمة باستبدال الوقود الأحفوري، فيما استجاب عدد كبير من شركات صناعة السيارات من خلال الالتزام بإحلال المركبات الكهربائية محلّ المركبات التي تعمل بمحرّكات الاحتراق الداخلي. تحوّلات ستجعل من سوق النفط سوقاً «متّسقة مع الأهداف المناخية»، ولكنها تشكّل، مع هذا، خطراً كبيراً على الاقتصادات المعتمدة على النفط.