تنهّد الأسير المحرَّر محمد أبو جلالة حين بدأ باستذكار أيّام اعتقاله الأولى، وهو الذي ترك موكب استقباله عام 2011، وتَوجّه إلى البحر ليغتسل فيه ويترك مع مياهه المالحة سنوات السجن وذكرياته القاسية. يقول الرجل الذي أُطلق سراحه في صفقة «وفاء الأحرار»، إن السلوك الإسرائيلي تجاه الأسرى منذ بداية الاعتقال وحتى نهاية شهور التحقيق، يكون «دون الحيوانية»، إذ إنه ومنذ لحظة إلقاء القبض عليه، شرع أكثر من 20 جندياً في ضربه بأقدامهم وبأعقاب البنادق، حتى غاب بعد نصف ساعة عن الوعي. عقب ذلك، استيقظ في غرفة التحقيق، وقد تغيّرت ملامح وجهه من شدّة الركلات والكسور التي طالت كلّ أنحاء جسده. يتابع أبو جلالة الذي كان قد اعتُقل عقب تنفيذه عملية فدائية هاجم فيها عدداً من الجنود في مدينة القدس المحتلة عام 1990: «لا أحبّ تذكّر أيام الأسر الأولى، فقد تركَت في داخلي ندباً وجروحاً لم يشفِني منها الزمن، إذ إن السلوك الحيواني الذي يمارسه جنود الجيش الإسرائيلي بحق الأسرى لحظة الاعتقال، لا تصفه الكلمات».ويبدأ مسلسل تعذيب الأسرى منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم، حيث يعمد جيش الاحتلال غالباً إلى تنفيذ العملية في ساعات الفجر، مع ما يرافقها عادة من ممارسات صادمة، كالسحل والضرب المبرح وركل مناطق الجسم الحسّاسة، تمهيداً لإدخال الأسير في مرحلة التحقيق. إذ ينعقد طموح السجّان الإسرائيلي على أن تسهم صدمة الاعتقال في إرهاب الأسير ودفعه إلى الاعتراف بما ارتكب وبما لم يرتكبه. وإذا ما تجاوز المعتَقل اللحظات الأولى من دون إقراره بلائحة التهم، تبدأ معاناته مع مسلسل التحقيق غير المحدَّد بمدة زمنية والذي تمارَس خلاله مختلف أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ومحاولات الإسقاط. يقول أبو جلالة في حديثه إلى «الأخبار»: «حين اعتقالي كنت قد أصبْت بعدد كبير من الكسور والطلقات النارية، وكان المحقّق في الأيام الأولى يغرس إصبعه في موضع الإصابة، فأغيب عن الوعي من شدّة الألم، ثمّ أستيقظ من جديد على وقع الماء البارد، وحينما أرفض التجاوب معه، يعيد الكرّة من جديد».
يبدأ مسلسل تعذيب الأسرى منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم


ولا تختلف ظروف التحقيق بين أسير وآخر كثيراً، إذ إن البروتوكول واحد، وهو ينصّ على ضرورة إجبار الأسير على توقيع لائحة الاتهام، والإدلاء بتفاصيل كثيرة عن رفاقه أو معلومات عن أشخاص في محيط سكنه. وفي الأغلب، يتجاوز كثير من الأسرى مرحلة التعذيب الجسدي، وخصوصاً المقاومين منهم، ليبدأ المحقّقون معهم مسلسل الإنهاك، من خلال وسائل تقليدية مِن مِثل الحرمان من النوم والطعام والشراب لأيام متتالية، أو الشبْح وقوفاً أو تعليقاً، أو التقييد بالسلاسل الحديدية على الكرسيّ لأيّام أو لأسابيع. يقول أبو جلالة الذي ألّف كتاباً وكَتب مسلسلات إذاعية وثّقت تجربة السجن: «في نهاية المطاف، وبعد أسابيع التحقيق الطويلة أو شهوره المتتالية، يلجأ الاحتلال إلى أساليب غير تقليدية لانتزاع الاعترافات، أكثرها ما يكون نفسياً، ومنها محاولات الإسقاط والإغراء بالمال والنساء، أو التهديد بهدم منزل العائلة، أو قتل الوالدين».
بالنسبة إلى صاحب مسلسل «الخال» الذي كان يعمل حكيماً قبل اعتقاله مطلع التسعينيات، وقد شارف على إنهاء دراسته العليا يوم تنفيذه لعمليته الفدائية، فإن ممارسات الاحتلال تجاه الأسرى في السجون، تهدف إلى تدمير إنسانيتهم، وتحطيم روح الرفض لديهم، وهو الأمر الذي يدركه الأسرى جيداً، ما يدفعهم إلى مواجهته، عبر استغلال سنوات الأسر الطويلة في تنمية المعرفة والاطّلاع والثقافة، إلى جانب الاهتمام بالصحة الجسدية والروحية. يشرح الرجل الذي أضحى متخصّصاً في الشأن الإسرائيلي بعد خروجه من الأسر: «كنّا نُعبّئ عبوات المياه البلاستيكية بالملح، ونلعب بها كرة القدم في وقت الفورة، يومها رآنا الضابط الإسرائيلي وأمر بسحب العبوات البلاستيكية منّا، ولمّا سألنا عن السبب، قال بلغة مستعلية، نريدكم ضعفاء، وعالة على مجتمعاتكم حين تخرجون، يجب أن ينهك السجن أجسادكم لا أن يبنيها». لكن فشل السياسة الإسرائيلية في تدمير الأسرى عقب خروجهم، يثبته الدور الذي أدّاه محرَّرو صفقة «وفاء الأحرار» الذين أضحوا قادة لأحزابهم، وصانعي قرار في فصائل المقاومة، أو خبراء في الشأن الإسرائيلي ومحاضرين في الجامعات الفلسطينية.