باريس | لم تكن النكبة الفلسطينية مجرد سطوٍ أجنبي على أرض ثم سلبها من أصحابها، بل هي محاولة لقرصنة تاريخ هذه الأرض وذاكرة سكانها ثم هويتهم. قدم الإسرائيلي إلى فلسطين من دون جذور تربطه بأي مكان في العالم، لذلك فهو أتى بإدراك كامل مفاده أن معادلة الأرض لن تكفيه وحدها للبقاء والاستمرار عليها.
هذه المعادلة التي جاءت بها الحركة الصهيونية وتتجاوز حدود السيطرة على الأرض لتصل إلى بناء وطن بكل معانيه لم تتكشف للفلسطينيين سريعاً؛ فمن يقرأ تاريخ القضية الفلسطينية وخاصة في العشرينيات وبداية الثلاثينيات يلاحظ غياب الوعي بما كان يعدّ لهم، باستثناء بعض الشخصيات الوطنية القليلة التي حذرت مبكراً من أبعاد المشروع الخطير.
ما حدث بعد وقوع النكبة كان معاكساً تماماً لما قبلها، فقد أدرك الفلسطيني بعد ضياع أرضه أن ذاته باتت مهددة، وهنا قادته فطرته إلى أن يتشبث بالبقاء على قيد الحياة لاستحضار هذه الذات. في ذلك الوقت، سادت حالة من الرومانسية العالية حوّلت فلسطين في وجدان الفلسطيني نفسه إلى «فردوس مفقود»، وانسحبت هذه الرومانسية الإيجابية على كل ما يتعلق بفلسطين من لباس ورقص وغناء وأكل، فأصبحت علاقة الفلسطيني بكل هذه الأشياء وجدانية بالدرجة الأولى، ثم استعان بالرموز ليؤكد حضور الغائب ويثبت علاقته وملكيته لما ضاع، فمنح أسماء مدنه المحتلة لمواليده اللاجئين، كما انعكس ذلك تلقائياً في الأدب والشعر والفن الذي ولد بعد النكبة.
من الغباء الطلب
من اللاجئ الصمود، وقد أصبح في ذيل قائمة الاهتمام الوطني

بمعنى آخر، تحول الصراع بالنسبة إلى الفلسطينيين من صراع على مساحات أرض مع مهاجرين يهود إلى صراع على وطن بكل ما يرتبط به من تاريخ وذاكرة، وهذا كله ساهم في بروز هوية فلسطينية وطنية واضحة المعالم، ولن نبالغ إذا قلنا إن أهم إنجاز حققه الفلسطينيون قبل انطلاق حركة التحرير الوطني (منظمة التحرير) كان ترسيخ هذه الهوية، بل لم يكن من الممكن تأسيس حركة تحرر وطني لولا النجاح في حماية الذات من الضياع مع الأرض التي ضاعت.
فور وقوع النكبة، ظهرت بعض محاولات المقاومة المسلحة لكنها كانت ردود فعل سريعة، ولو اقتصر عليها دون موازاتها بإعادة بناء عناصر الهوية الوطنية لانتهت هذه المحاولات في ظل موازين القوى التي كانت قائمة. أما حركة التحرر فساهمت في تقوية هذه الذات وشعور الاعتزاز بالهوية العصية على الموت، فبدلاً من أن يكون المخيم رمزاً للهزيمة والانكسار، حوّله انطلاق الفدائي منه إلى رمز للصمود، ففعل المقاومة هنا منح الخيمة ومفتاح البيت وغيرها معاني إيجابية حتى ذابت في الهوية الوطنية.
الحديث عن الهوية في الحالة الفلسطينية ليس خطاباً عاطفياً بل مسألة مركزية، فلم يكن من الممكن المحافظة على شعب تشتت في بلاد العالم واختلطت أجياله بثقافات ولغات مختلفة دون هوية جامعة، لهذا فإن الحركة الصهوينية بقدر ما تفاجأت بسهولة السيطرة على الأرض، تفاجات أيضاً بقدرة الفلسطيني على المحافظة على ذاته وذاكرته، أي صار الصهيوني يسيطر على أرض دون هوية، في حين أن الفلسطيني احتفظ بتاريخ وهوية حتى دون أرضه.
هذه المعادلة التي صنعها الفلسطيني شكلت في ما بعد جوهر الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي، لأن الفلسطيني استطاع توريث الوطن إلى الأجيال بالتزامن مع توريث رموز قضيته بمعانيها الإيجابية المرتبطة بالمقاومة. أما الإسرائيلي فلا يزال يخشى على قدرته في الاستمرار بالمحافظة على الأرض. اليوم يحيي الفلسطينيون في العالم كله الذكرى السادسة والستين للنكبة، أي على بُعد أكثر من نصف قرن، وبَعد تعاقب عدة أجيال، وفي ظل كل التغييرات، علينا أن نسأل: هل ظلّ معنى الوطن كما رُسم في أعقاب النكبة على حاله؟ وهل لا تزال عملية توريث الوطن بصورته الأولى مستمرة؟ وهل هذه الرموز التي ترفع في هذه الذكرى لها المعاني نفسها والتأثير عينه على حاملها؟
يظهر أن المدخل لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة هو تحليل التغييرات السياسية الجوهرية التي أتت بها اتفاقات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، لأن هذه التغييرات مسّت عصب المؤسسات الوطنية الممثلة للشعب الفلسطيني، كما مست طبقاته الاقتصادية وحياته الاجتماعية، وكله انعكس تلقائياً على ثقافته الوطنية.
إذا بدأنا محاولة التحليل على المستوى المؤسساتي، فإن العمر الافتراضي للسلطة كان خمس سنوات، يجري خلالها التوصل إلى اتفاقات الحل النهائي وإنشاء «دولة على حدود 1967»، لكن هذه المؤسسة استمرت حتى اليوم وتوسع دورها وتضخم. ومع مرور الوقت، جاء هذا التوسع على حساب منظمة التحرير التي تحولت بدورها إلى هياكل دون وظائف حقيقية. هذا التغيير في دور المؤسسات انعكس على تمثيل الشعب وترابطه، ففي الوقت الذي تمثل فيه المنظمة شعبها في مختلف أماكن وجوده، فإن السلطة قانونياً لا تمثل سوى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ومع انتقال ثقل القضية من الشتات إلى أراضي 1967، انعكس ذلك على قضية اللاجئين التي أصبحت ملفاً مدرجاً على أجندة المفاوضات فقط.
من هنا، بدأ اللاجئ نفسه يشعر بضعف هذا التمثيل عملياً عدا التغيير الذي طرأ على الترابط مع فلسطينيي الداخل، لذلك فإن الهوية التي تم تعزيزها وجدانياً وتمثلت مؤسساتياً بعد النكبة ربما هي اليوم في طور انحسار ضمن المستوى الوجداني. وبما أن التحولات الاقتصادية هي المدخل الأهم نحو نظيرتها الاجتماعية، فإن السلطة خلال العقدين الماضيين فرضت نظاماً اقتصادياً جديداً مس جوهر الحياة الاجتماعية لسكانها، فتراجعت الطبقة الوسطى لتنمو على حسابها طبقة طفيلية غنية تشكلت من الموظفين الكبار للسلطة مع موظفين كبار في المؤسسات الأهلية التي انتشرت بطريقة مرضيّة، إضافة إلى أصحاب شركات القطاع الخاص. في مقابل ذلك، ظهرت طبقة جديدة تتأرجح بين الوسطى والفقيرة وتتكون من جيش الموظفين الصغار الذين يعتاشون على رواتب آتية من المجتمع الدولي.
حتى تتضح خطورة هذا التحول الاقتصادي، علينا أن نتذكر أنه قبل «أوسلو» كانت هناك قاعدة إنتاجية محلية لا بأس بها توفر متطلبات الصمود الأساسية لشعب يعيش تحت الاحتلال، إضافة إلى العمل الزراعي الذي احتفظ بدوره وقيمته الاجتماعية، ولكن النظام الاقتصادي بعد أوسلو الذي خضع لاتفاقية باريس فرض شكلاً من أشكال السوق الحرة، وأدى ذلك مع الوقت إلى تدمير هذه القاعدة، ثم جاء التوظيف في السلطة على حساب العمل الزراعي والحرفي الذي فقد قيمته في مجتمع الاستهلاك الجديد.
وعن وعي كامل، شجعت السلطة وخاصة في زمن سلام فياض ثقافة القروض البنكية التي رهنت أكثر من نصف سكان الضفة وغزة للبنوك المحلية، والغريب أن اللجوء إلى القروض كان بهدف مجاراة القيم الجديدة التي فرضتها تلك الطبقة الطفيلية، في حين أن الطبقة الأخرى وجدت نفسها تركض ليل نهار لتأمين رغيف العيش واللحاق بالقيم الاجتماعية المفروضة على حساب الهم الوطني.
إذا ربطنا كل تلك التغييرات بالمسار السياسي للسلطة فسنجد أننا أمام نكبة بدأت تمس الإنسان الفلسطيني بعدما سحبت وطنه، فالسلطة كسرت بسلوكها السياسي معادلة ما بعد النكبة مباشرة، فلم يعد الصراع اليوم على الوطن بكل معانيه المعروفة، بل أضحى على أرض يمكن قياسها بالكيلومتر المربع، كما تلاشى الكفاح للمحافظة على الإنسان وذاكرته الجماعية لحساب مفاوضات حول دولة. وبما أننا نتحدث عن دولة لا عن وطن، فإن التنازل يصبح عملاً دبلوماسياً يخضع لموازين القوى ضمن المفاوضات والتنازلات لأن الوطن مقدس ثابت، في حين أن الدولة جهاز سياسي يقبل التغيير.
انطلاقاً من التحليل السابق، علينا أن نستقبل ذكرى هذا العام بتوجس شديد، لأن من السذاجة الاطمئنان إلى الشعارات المعروفة عن حق العودة ونحن نشهد كل هذا التدمير بحق الإنسان الفلسطيني، وسيكون من الغباء السياسي أن نطلب من اللاجئ الاستمرار في الصمود بعد أكثر من نصف قرن، وقد أصبح في ذيل قائمة الاهتمام الوطني. علينا ألا نصدق كثيراً من يحمل مفتاحاً لبيت جده في يافا ويجوب به شوارع الضفة وغزة وهو في الوقت نفسه يحلم في الهجرة إلى أوروبا، كما علينا أن نخاف على جيل أتى يتعلم على مقاعد الدراسة منهاج الجغرافيا، فيه يشطب أكثر من نصف خريطة الوطن... ولننظر اليوم إلى حامل الرمز لا إلى الرمز نفسه.