تبدو إسرائيل، هذه الأيام، أسيرة المقولة المحبّبة لدى وزير أمنها، بيني غانتس: «ما كان لن يكون»، والتي على أساسها تدور حرب الإرادات مع قطاع غزة. تسعى إسرائيل لإخضاع القطاع لحصار أشدّ ممّا كان مفروضاً على الغزّيين قبيل عملية «سيف القدس»، لأسباب متداخلة في تل أبيب، فيما تُصرّ فصائل المقاومة على عودة إسرائيل إلى التفاهمات التي كانت سارية قبل العدوان الأخير، وهو الأمر الذي ترفضه تل أبيب أيضاً، إلى الآن. لدى الجانبين وسائل وأدوات تُستخدم في محاولة فرض الإرادات المتضادّة، ودفع الجانب الثاني إلى التراجع. لكن إلى حين إذعان أيّ طرف أو التوصّل إلى تسويات، بات الانزلاق إلى مواجهة عسكرية جديدة فرضية معقولة، وإن كان الجانبان حريصَين على منع التصعيد.تريد إسرائيل أن تنهي مفاعيل «سيف القدس»، بما فيها أيّ تطلّع لاحق لدى غزة إلى تحقيق إنجازات بالقوّة العسكرية، وذلك عبر إفهام الفلسطينيين أن الإنجاز العسكري لا يعني بالضرورة أنهم قادرون على ترجمته مكاسب من إسرائيل، سواءً كانت ترتبط بفكّ الحصار و/أو تليينه، أو بفرض معادلات وتوسيع أخرى. كذلك، تريد إسرائيل إفراغ الإنجاز العسكري الفلسطيني الأخير من مضمونه، ومنْع تكراره لاحقاً، من خلال تدفيع الفلسطينيين ثمنه، وهو ما يندرج في إطاره تشديد مستوى الحصار، والذي يتّخذ مظاهر عدّة أبرزها تغيير إجراءات تحويل المنحة القطرية بما يكفل إبعاد حركة «حماس» عنها وربطها بالسلطة الفلسطينية، والسماح لعدد قليل جداً من التجّار الفلسطينيين بالتنقّل عبر المعابر، الأمر الذي يعني مستوى أعلى من الحصار، سيتلمّسه الفلسطينيون عبر تأخير وصول سلع أساسية أو فقدانها، بعدما كان يُسمح بإدخالها قبل عملية «سيف القدس». بالتوازي مع ما تَقدّم، يجري العمل على فرْض معادلات وقواعد اشتباك جديدة، من بين وجوهها الردّ على البالونات الحارقة بغارات جوّية وإن استهدفت فلوات.
وتبدو في خلفية السلوك الإسرائيلي الذي يصبّ في صالحه قرار الجانب المصري العودة إلى الاشتراك في حصار غزة، جملة عوامل ومحدّدات مختلفة، يتداخل فيها الاستراتيجي والتكتيكي، والشخصي والعام، والداخلي والخارجي، والقصير الأمد والبعيد الأمد. وفي ما يتّصل بالأمن الإسرائيلي تحديداً، يمكن الحديث عن الآتي:
- يُمنع على غزة تحقيق مكاسب عبر إنجازات عسكرية؛ ذلك أنّه في حال حَقّق الفلسطينيون مكاسب من هذا الطريق، فسيعملون على سلوكه لاحقاً لتحقيق مزيد منها. وإن كان الضرر الإسرائيلي الحالي محمولاً ومن الممكن احتواء تداعياته، فيتعذّر، من الآن، تقدير تداعيات الإنجاز العسكري الفلسطيني المقبل، والثمن الذي سيطلبه الفلسطينيون بفعله، وهو ما سيكون مطروحاً بقوة على طاولة قرار فصائل المقاومة مستقبلاً.
- العودة إلى حصر تطلّعات الفصائل في دائرة كسر الحصار، أي ربط وجود سلاح غزة وإمكانية تفعيله بهدف واحد وهو تليين الحصار، من دون أيّ تطلّع إلى مستويات وقضايا أخرى، خصوصاً قضايا القدس والمقدسيين والمسجد الأقصى، وهو الأمر الذي يُعدّ من ناحية إسرائيل تهديداً استراتيجياً يصعب عليها التعايش معه.
- منع سلاح غزّة من أن يكون جزءاً من محور أوسع، هو محور المقاومة، بالنظر إلى ما يمثّله هذا الواقع من تهديد كبير لإسرائيل.
من ناحية أخرى، كان لفشل الجيش الإسرائيلي في تنفيذ خطّة إيذاء غزّة، إلى حدّ منعها من استخدام سلاحها أو التهديد باستخدامه، ضررٌ كبير جدّاً على إسرائيل ومؤسّستها العسكرية، وحتى على رئيس أركان جيشها أفيف كوخافي الذي تبجّح سابقاً بأنه بات قادراً على سحق أعداء إسرائيل، الأمر الذي لم يتحقّق في المواجهة الأخيرة. ومن هنا، تختلط دوافع التشدّد في الموقف، ما بين فشل المؤسسة نفسه، والعامل الشخصي الخاص بكوخافي، والذي يعتقد أنه معنيّ بأن يمنع الفلسطينيين من تحقيق أيّ إنجاز أو مكسب، نتيجة إخفاقه هو في إخضاعهم عسكرياً. بالتوازي مع ذلك، تشتدّ المزايدات في الداخل الإسرائيلي بين السياسيين الذين يعلو صوت المعارضين منهم بانتقاد كلّ ما يصدر عمّن يمسك بالسلطة الآن، علماً أن الحاكم اليوم ليس إلا نفتالي بينت الذي كان من أشدّ المطالبين بالتطرّف ضدّ غزّة، عندما كان بنيامين نتنياهو في السلطة. بالطبع، بينت معنيّ، على خلفية المصلحة الشخصية، بأن يتميّز عمّن سبقه، عبر تقديم نفسه إلى الجمهور الإسرائيلي على أنه ساعٍ في تأمين مصالح الكيان بشكل أفضل، وهو ما يدفعه إلى مزيد من التصلّب تجاه غزة.
يعني كلّ ذلك أن المواجهة العسكرية الأخيرة لم تنتهِ بعد، وأنها ما زالت قائمة ومفعّلة، وإن كانت تُخاض عبر وسائل قتالية غير عسكرية. ولا يتعلّق صراع الإرادات هنا، من الجانب الفلسطيني بهذا التفصيل أو ذاك، بل بمنْع إخماد التطلّع إلى ما وراء الحصار، وحصْر النضال الفلسطيني تحت سقوفه، فيما الجانب الإسرائيلي معنيٌّ بأن يحافظ على إنجازاته التي حقّقها عبر السنوات الماضية بواسطة سلاح الحصار. فهل تنجح الأداة غير العسكرية في الضغط على الفلسطينيين وإخضاعهم أم أن صبرهم و إصرارهم على مطالبهم من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى الإذعان؟