كمّ العداء بين نظامَي الإمارات وتركيا، يجعل من زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي، طحنون بن زايد، لتركيا حدثاً غير عادي. ففي مثل حال البلدَين المذكورَين، لا مجاملات. وحدها صفقة، يمكن أن تبرّر هرولة طحنون إلى قصر «الخليفة»، ولقاءه رجب طيب إردوغان، عقب اصطدام السياسات العدائية الخائبة لأبو ظبي تجاه غالبية دول الشرق الأوسط، بحقائق جديدة، تتطلّب قفزاً سريعاً من موقع إلى آخر. وفي الوقت نفسه، تواجه السياسات التوسّعية التركية المكلفة والفاشلة هي الأخرى، مجموعة من الانتكاسات، من سوريا إلى ليبيا، معطوفةً على أزمة اقتصادية متصاعدة، ولّدت حاجة لدى أنقرة لإعادة حساباتها.
ليس لقاء إردوغان - طحنون بدايةَ رحلة العودة عن العداء بين نظامَي البلدين(أ ف ب )

بين تركيا والإمارات، سلسلة طويلة من الحروب بالوكالة، العسكرية وغير العسكرية، التي بدأت مع الربيع العربي، حين شكّلت الأولى رافعة لحركة «الإخوان المسلمين»، في حين حاولت الثانية الوقوف سدّاً في وجههم. واستخدمت كل منهما ما تملك من إمكانات وأسلحة وارتباطات، في محاولةٍ لإلحاق هزيمة بالثانية. ولكن أيّ مقاربة للعلاقة التركية الإماراتية، لا تكون كاملة، إلّا إذا جرى إدراج العامل القطري في الحسبة. فلا يمكن التوصّل إلى صفقة كاملة تعيد تطبيع العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي، من دون أن يطرأ تحسُّن على العلاقات بين أبو ظبي والدوحة، نظراً إلى التحالف العميق بين تركيا وقطر، والذي يتعارض بشكل صارخ، مع الخصومة المستحكِمة التي تكاد تشمل كل شيء، بين الدوحة وأبو ظبي. ولذلك، ليس من المنطقي القفز إلى استنتاجات في العلاقات التركية - الإماراتية، ما دام لا حراك حتى الآن بين قطر والإمارات. وربّما يطلب إردوغان من ابن زايد تحسين العلاقات مع قطر، كممرّ للتطبيع التركي - الإماراتي.
وإلى جانب العامل القطري، تأتي السعودية، التي كانت تتحالف معها الإمارات ضدّ تركيا، لكنّ التقارب التركي - الإماراتي يحصل حالياً على خلفية نزاع متصاعد بين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، عنوانه الافتراق بسبب فشل كل المشاريع التي قام عليها التحالف بين الرجلين، من اليمن إلى فلسطين، واتّهام ولي العهد السعودي، ضمناً، نظيره الإماراتي، بتوريطه في هذه المشاريع، ثم الخروج منها وتركه وحيداً، بمجرّد أن يلوح الفشل في الأفق. ولذا، يجد ابن زايد نفسه، مدفوعاً للارتماء في أحضان إردوغان. فلا يستطيع حاكم الإمارات مواجهة غضب جاره من دون أن يأمَن جانب الخصوم الآخرين. وهذا أيضاً ما يدفعه إلى إرسال وفوده إلى طهران. قد يتوصّل ابن زايد وإردوغان إلى صفقة جزئية، تلبّي بعض حاجات كل منهما، إن لم يكن بالإمكان تلبيتها كلّها، بالنظر إلى التطوّرات الدراماتيكية التي شهدها الشرق الأوسط، والتي تكاد تحسم الوجهة التي ستسير فيها المنطقة في السنوات المقبلة.
أيّ مقاربة للعلاقة التركية - الإماراتية، لا تكون كاملة، إلّا إذا جرى إدراج العامل القطري في الحسبة


الحديث يجري عن ضخّ استثمارات إماراتية في تركيا، تعويضاً عن «التآمر» على نظام إردوغان، ولقاءَ المساعدة في تحييد ما تعتبره الإمارات، خطراً على نظامها من قِبَل «الإخوان المسلمين» التي يعتبرها حُكّام أبو ظبي أخطر تهديد لهم، وخاصّة أن عدداً كبيراً من «إخوان» الإمارات، ينشطون من منفاهم في تركيا، حيث يحظَون برعاية وحماية الدولة التي توفّر لهم منابر إعلامية. لكن الدافع الرئيس لزيارة طحنون، هو مشهد الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، الذي هيمن على تفكير حُكّام مشيخات وممالك الخليج الذين يتمتّعون بضمانات أميركية لأنظمتهم. هذا الانسحاب رنّ جرس إنذار لدى الإمارات التي أيقنت أن العلاقة بالأميركيين ليست ضمانة لأيّ نظام، عندما تتغيّر المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، وكذلك أن إسرائيل لا تستطيع توفير الحماية لحُكّام الإمارات، بل إن العلاقات معها يصبح لها مفعول عكسي.
لم يكن تهاوي أفغانستان بيد «طالبان»، نقطة بداية التوتّر الإماراتي. فالاتجاه الأميركي لتسريع الانسحاب من الشرق الأوسط، اتّضح قبل ذلك، وتحديداً منذ تسلُّم إدارة جو بايدن السلطة. لكن المشاهد الواردة من أفغانستان، أكدت للإمارات، أنه عندما يحين وقت رحيل القوات الأميركية كلّياً من الخليج، فإن الولايات المتحدة لن تنظر إلى الوراء، وسيكون على مَن تعاملوا معها، التعلُّق بأجنحة الطائرات وعجلاتها، إن لم يجدوا لهم مكاناً في داخلها. أما الحُكّام، فسيكون مصيرهم مثل مصير أشرف غني الذي لجأ مع أسرته إلى الإمارات، أو أولئك القادة العرب الذين لم يجد بعضهم مَن يستقبله في الغرب، على رغم الخدمات التي قدّموها له لسنوات طويلة. وتتزامن الانعطافة الإماراتية، مع تراجع ملحوظ لمشهد التطبيع مع إسرائيل، الذي كانت أبو ظبي، قبل أسابيع قليلة فقط، تُظهر حماسة كبيرة له، وتعبّر عن دفء مبالغ به يصلح للعلاقات بين الأفراد، لا الدول.

لماذا طحنون وليس محمد بن زايد؟
ليس لقاء إردوغان - طحنون بدايةَ رحلة العودة عن العداء بين نظامَي البلدين، فهو يأتي بعد أشهر من المحادثات البعيدة عن الأضواء، بين جهازَي الاستخبارات، ولكنه أيضاً ليس تتويجاً لصفقة ناجزة تشمل كلّ شيء، وتبرّر لقاءً بين إردوغان ومحمد بن زايد. ومع ذلك، تحدّث الرئيس التركي عن لقاء قريب مع ولي عهد أبو ظبي، بما يوحي بتحقيق اختراق خلال زيارة طحنون.
كمّ المشكلات بين تركيا والإمارات، كبير جداً. كانت حكومة إردوغان تعتبر الإمارات «رأس الشرّ»، والعدوّ الرئيس لـ«الإخوان المسلمين» التي يقودها الرئيس التركي، ومصدر مشاريع كثيرة ضدّ تركيا، وأخطرها محاولة الانقلاب على الرئيس التركي في عام 2016. وإذا صحّت الاتهامات التركية في هذا الشأن، فَمِن الطبيعي أن يكون طحنون شخصيّاً معنيّاً بها. الاتهامات التركية شملت أيضاً دعم المقاتلين الأكراد ضدّ تركيا، وأحزاب المعارضة العلمانية التركية، بما يعني أن الرئيس التركي ينظر إلى قادة الدولة الخليجية بوصفهم تهديداً لأمن تركيا نفسه، وليس لنظامه فحسب. وثمة مسائل أخرى تمسّ إردوغان شخصياً، من قضية سادات بكر، الزعيم المافيوي التركي الذي هرب إلى دبي حيث تحوّل إلى مخبر لا عمل له سوى فضحه.
أيُّ ثمن يمكن أن يبرّر لإردوغان تجاوز كل ذلك، والعودة إلى علاقات طبيعية مع ابن زايد؟