حمص | يتأمل صاحب أحد المطاعم «بستان الديوان»، ضمن حي الحميدية الواقع وسط حمص القديمة، ما حلّ بمطعمه بأسى. يرتجف وهو يخطو في باحة مطعمه. يحاول أصدقاء مواساته. يأتي إليه أحد الأصدقاء بقفل جديد لإغلاق الباب المخلوع، بهدف المحافظة على ما تبقى داخل الصالة من أغراض. المشهد نفسه في صالة مطعم أثري شهير آخر.
الكثير من الركام يغطي الأركان. دموع كثيرة في عيون أصحابه. يسعون إلى شحن ما تبقى من أغراض داخله، من أجل البدء بأعمال التنظيف، ثم الصيانة.
الآليات الحكومية التي تدور في شوارع الحي لإزالة الركام وفتح الطرق تبعث لدى السكان إرادة إضافية. ورش الكهرباء والماء والصرف الصحي تتابع أعمالها أيضاً. يخشى الأهالي احتمال وجود بقايا مواد متفجرة، أو قذائف لم تنفجر بعد. يقول جوزيف، أحد سكان الحيّ: «وجدت الكثير من الأسمدة وبعض المواد الغريبة داخل براميل. أخبرت أحد الضباط بالأمر فاستدعى وحدات الهندسة. طمأنني الضابط بأنه لا خوف من هذه المواد ما لم يُخلط بعضها ببعض، فتفاعلها وحده يسبب الانفجار». يخشى جوزيف من لمس أيّ جسم غريب في منزله. يحاول حمل بعض الأشياء التذكارية أو الثمينة، لكن لا يقترب من أواني الغاز المعدنية خشية أي مفاجآت. ينتظر رأي خبراء الهندسة قبل التعامل مع أي جسم غريب، ويضيف: «هذه المنازل القديمة كانت بؤر تمركز لقيادات المسلّحين. مخلّفاتهم بقيت في جميع البيوت القريبة من كنيسة أم الزنار التي أحرقوها قبل إخلائها. لقد استغلّوا أحجار البيوت القديمة التي تخفف أخطار القصف المدفعي والجوي».
في مطبخ منزلها، عثرت مادلين على حفرة في الأرض. أصيبت المرأة الثلاثينية بالهلع، فهرعت إلى الخارج. أحد عناصر الجيش عاين الحفرة بحذر، ثم قال لها: «لقد حاولوا إخفاء شيء ما في أرض المطبخ. ولم يسعفهم الوقت في ردم الحفرة كلياً». يخرج الجندي منادياً زملاءه في وحدات الهندسة أيضاً للوقوف على خفايا تركة المسلحين التي حاولوا إخفاء الكثير منها على عجل. البعض يتوقع أن المسلحين الذين غادروا سريعاً، لا بدّ أنهم خلّفوا وراءهم بعض الآثار والكنوز والأموال التي «غنموها» من المحال التجارية الملأى بالبضائع والذهب في حمص القديمة. لم يترك المسلحون شيئاً من مقتنياتهم صالحاً للاستعمال. آلياتهم المتوقفة في الشوارع متفحمة، بما فيها آلياتهم العسكرية المسروقة، حيث عمل الجيش على نقلها إلى خارج المنطقة. «بعرض إختي جوعان»، عبارة مكتوبة على جدران منزل مريم. المرأة الجالسة على عتبة منزلها الذي أحالته الحرب ركاماً.
مريم التي حلمت بالعودة إلى منزلها لتنظيفه والإقامة فيه، لم تجد جدراناً قائمة. تقول باكية: «الكثير من جيراننا بدأوا تنظيف منازلهم وسط كل هذه الفوضى. وحده بيتنا مدمر كليّاً». يقول شقيقها سعد الجالس إلى جانبها: «كان المسلحون متمترسين في المنزل. إنه ملاصق للهيئة الشرعية خاصتهم». يتعايش الشاب مع وجعه بقناعة من قضى سنتين نازحاً، رغم امتلاكه منزلاً قديماً يساوي ملايين الليرات، في إحدى أغنى مناطق المدينة. يلتقي السكان بجيران غابوا عنهم أشهراً طويلة. يختصرون سنتين من التطورات والأحداث بجمل مقتضبة، توضح كيف حاولوا تناسي نكبتهم. بعضهم عاد من بيروت، وآخرون أتوا من دمشق وطرطوس وقرى وادي النصارى وأحياء حمص الآمنة بعد استئجار بيوت موقتة. يقف رجل عجوز في الطابق الثالث من أحد المباني. وقفته معبّرة على شرفة غير موجودة، وكأنه متأهّب لرمي نفسه، إذ لا حاجز يمنع السقوط. يلوّح للمارين بطريقة هستيرية ضاحكة. وحين يدخل الكثير من أهالي الحميدية إلى حيّهم آملين رؤية منازلهم بخير، يخرج مايك وزوجته من الحي مبتسمين بمرارة. يتأملان وجوه الأهالي، ويقولان لإحدى الجارات المتسائلات: «لم نجد منزلاً». يتعانقان في محاولة للمواساة، ويسيران في حيّهما الذي حضن حبّهما وزواجهما، فيما أنجبا ابنهما الأول في «حيّ النزوح».
في كنيسة أم الزنار المدمرة أحيا مطران السريان الأب سلوانوس صلاة يوم الأحد الأول، في المدينة العائدة إلى سيطرة الدولة. صلّى الجميع وقوفاً، وعلى الوجوه علامات التأثر. الكثير من الحُفر خلف المذبح، يبررها أحد رجال الدين بمحاولات المسلحين البحث عن الآثار التي يشاع أنها تملأ أراضي المدينة القديمة، ومحيط الكنيسة. الكنيسة المحترقة توحي بتمركز مقاتلي المعارضة فترة طويلة ضمن غرفها. قدّاس آخر عُقد في دير الآباء اليسوعيين حول قبر الأب فرانسيس فان در لوخت، بالتزامن مع قرع أجراس جميع الكنائس. محاولات السكان مستمرة يومياً للوصول إلى دير الآباء اليسوعيين وسط بستان الديوان. الكثير من اللهفة والخشوع يغلّف قلوب زوار المكان. هُنا عاش الأب فرانسيس، وهُنا قضى آخر أيامه، ثم قُتل على يد المعارضة. في باحة الدير بعض السيارات بإطارات معطوبة. يحظر على الداخلين الاقتراب منها، خشية وجود أي مواد متفجرة، رغم أن الدير لم يتعرض لأي أذى. الوصول إلى قبر الأب في حديقة الدير ليس صعباً، إذ يتجمع عدد من أبناء الحي العائدين حول القبر يؤدون الصلاة ويذرفون الدموع. كُتبت على القبر عبارة رجل الدين الشهيرة التي كان يحثّ فيها أبناء الكنيسة: «إلى الأمام». القبر مغطى برخام حمص القديمة ذي اللون الأسود، ومزين بالورود الملونة، بين شجيرات دائمة الخضرة. ملامح التأثر تبدو على وجوه المتناوبين على الجلوس حول القبر. غرفة الأب المتواضعة تشي بحياة الزهد التي عاشها الرجل المستشرق في المدينة الحزينة. يوضح مرافقه أن الأب الراحل انتقل إلى الإقامة في الغرفة الواقعة في الطابق الأرضي لأنها أكثر أماناً من غرفته الأساسية العالية، التي ترك فيها أهالي الحي أماناتهم الثمينة قبل مقتله. وفي مذبح الكنيسة حيث صلّى الأب الهولندي لخلاص حمص القديمة، يلتقط الزوار الصور، شاكرين الظروف التي جعلت الأب يقيم في الدير، ما جعله في منأى عن تمركز المسلّحين، فبقي على حاله.