يضغط سؤال اليوم التالي على الأعصاب التونسية الملتهبة خشية الوقوع في محظورات العنف والفوضى، أو التراجع عن الحرّيات العامّة، الإنجاز شبه الوحيد لأولى ما يطلق عليها «ثورات الربيع العربي»، أو إعادة إنتاج الأزمة بعد انقضاء مواقيت الإجراءات الاستثنائية، من دون إقرار خريطة طريق لتغيير قواعد النظام السياسي، الذي تعفّنت بيئته. كانت»الإجراءات الاستثنائية، التي أعلنها الرئيس التونسي، قيس سعيد، تعبيراً عن الأزمة لا الأزمة نفسها، التي أخذت شواهدها تُنذر بانهيارات سياسية واجتماعية وصحية قد تأخذ البلد كلّه إلى المجهول. هذه حقيقة أولى في أيّ إطلالة على الأزمة التونسية، دواعيها ومنزلقاتها. لم يكن ما جرى في تونس مفاجئاً، كان الانفجار محتّماً بصيغة أو أخرى. وصل تنازع الاختصاصات بين رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان إلى حدود تُقارب اللامعقول. الرئيس شبه معزول في قصر قرطاج، يخطب محتجّاً من دون أن يكون في مقدوره أن يمارس صلاحيات حقيقية على رغم أنه منتخب مباشرة من الشعب، ورئيس الحكومة الذي اختاره الأوّل بنفسه ينضمّ إلى رئيس البرلمان، مركز القوة الحقيقي في النظام السياسي، والذي مضى بعيداً في النيل من اختصاصات الرئيس بإدارة السياسة الخارجية تحت مسمّى «الدبلوماسية البرلمانية»! فوضى السلطة الضاربة، صاحبتها أزمة اجتماعية متفاقمة وجائحة تحصد الأرواح، من دون أن تكون هناك سلطة تنفيذية تدرك واجباتها وأولوياتها، فيما البرلمان مشغول بنزاعاته على توزيع الغنائم في بلد يستبدّ به اليأس. قبل إعلان الإجراءات الاستثنائية، التي اختلفت التوصيفات حولها، سادت تونس حالة اضطراب. جرت احتجاجات وتظاهرات وصلت، بدواعي الإحباط العام، إلى إحراق مقرّات حركة «النهضة» باعتبارها رمزاً لسلطة الحكم. لم يكن بوسع أحد السيطرة على الشوارع الغاضبة، ولا توقّع ما قد يحدث تالياً. وبغضّ النظر عن مدى اتّساق الإجراءات التي أعلنها الرئيس التونسي مع نصوص «المادة 80» من الدستور، التي استند إليها، فإن الأزمة سياسية لا قانونية. وفي ما هو سياسي، فإن التدخّل الرئاسي له مبرّراته في توسيع نطاق الإجراءات الاستثنائية لمواجهة «الخطر الداهم الذي يهدّد كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها ويتعذّر معه تسيير دواليب الدولة». وفي ما هو قانوني، فإن هناك قدراً لا يخفى من التعسّف في تفسير المادة الدستورية، على ما يكاد يُجمع الفقهاء الدستوريون، بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وإعفاء رئيس الحكومة وإسناد مهامّ النيابة العمومية إلى رئيس الدولة! الضرورات السياسية غلبت الاعتبارات القانونية. هذه حقيقة ثانية لا يصحّ إغفالها عند النظر في تعقيدات الأزمة ومستقبلها. بنظرة أخرى، فإن «شرعية» الإجراءات الاستثنائية، المؤقّتة بالالتزام الرئاسي، تعود في المقام الأول إلى الترحيب الشعبي الواسع، الذي تبدّى في الشوارع عقب إعلانها، ضيقاً بالنخب السياسية الحاكمة. الشرعية الشعبية فاقت الشرعية الدستورية! هذه حقيقة ثالثة، لكنها ملغّمة بالتساؤلات حول المستقبل ومزالقه، خشية تقويض المنجزات الديمقراطية. فالشرعية الدستورية هي الأساس، وإذا كان هناك من تشوّه في النظامين السياسي والانتخابي، فإنه يتعيّن إصلاحه بالتوافق الوطني الواسع، وإدخال ما هو ضروري من إصلاحات في بنية الدستور، لا بإلغائه أو التلاعب به. ردم الفجوة بين الشرعيتَين الشعبية والدستورية أولى المهام وأكثرها إلحاحاً، بمعنى استعادة الثقة في الحياة السياسية بإعادة تجديدها على أسس جديدة، تمنع في وقت واحد العودة إلى المربّع الذي استدعى الأزمة وانفجارها، أو استدعاء حكم الرجل الواحد مجدّداً.
الأزمة تَصدّرها رجلان على طرفَي نقيض: رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي. أوّلهما أعاد بناء صورته على نحو جديد يختلف عمّا بدا عليه قبل عام ونصف عام عند انتخابه رئيساً للجمهورية، فهو حازم وعنيد ومستعدّ لأن يمضي إلى آخر الشوط في مواجهة أيّ تهديدات محتملة: «إذا أُطلقت رصاصة واحدة على الدولة فسوف نواجهها بوابل من الرصاص». لا مغلوب على أمره ولا رئيس منزوع الصلاحيات. ينفي عن إجراءاته الاستثنائية صفة «الانقلاب»، فهو رجل قانون دستوري اضطرته ظروفه لها، من دون أن يكون في مخطّطه النيل من الحريات العامة، أو الانقضاض على المسار الدستوري والسياسي، كما أعلن في محاوراته مع ممثلي المنظّمات المدنية و»الاتحاد التونسي للشغل». وثانيهما، رجل عملي براغماتي، يترأّس حركة إسلامية تُمسك بمقاليد السلطة الفعلية. ناهَض الإجراءات الاستثنائية، واعتبرها انقلاباً على الثورة والديمقراطية والحرّيات العامة. حاول أن ينظّم اعتصاماً لأنصاره أمام البرلمان في اليوم التالي لإعلان الإجراءات، لكنه استبعد الفكرة سريعاً خشية التبعات. بحقائق القوة، خفّف لهجته، من التحدّي إلى طلب الحوار مع رئيس الدولة ومع الأطياف السياسية الأخرى، التي رفض بالاستعلاء في أوقات سابقة الحوار معها.
أسوأ ما يجري في قراءة الأزمة التونسية، استدعاء تجارب الآخرين في غير موضعها وخارج سياقها


في عمق الأزمة التونسية، تبدّت تساؤلات حول مستقبل تيّار الإسلام السياسي، الذي مُنيت تجاربه في السلطة بفشل ذريع مرّة بعد أخرى. في كلّ تجربة حُكم، حاول أن يستأثر بالسلطة وحده، أن «يُكوّش» على مفاصلها، أن يثير الفزع العام كأنه عبء على فكرة التحوّل الديمقراطي كلّها. يتنكّر لتعهّداته مع القوى السياسية الأخرى، ولمبادئ الثورة التي صعد بمقتضى إنجازاتها، لكنه يتذكّر الحوار عندما يخرج من السلطة أو يتهدّد وجوده فيها، ويتذكّر الثورة والديمقراطية والحرية والمسار الدستوري عندما يُطرد من الحلبة السياسية، وليس وهو في مركز السلطة. ارتكب الغنوشي الأخطاء نفسها التي ارتكبتها جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، لكنه أكثر براغماتية وقدرة على المناورة بالانحناء للعواصف. للحظة، تَصوّر أن بوسعه استنساخ «السيناريو التركي» في إجهاض الانقلاب الفاشل (تموز 2016)، بالدعوة إلى التحرّك ضدّ ما سمّاه «الانقلاب»، لكنه فوجئ بأن حركته شبه معزولة، بلا غطاء سياسي داخلي كافٍ للمواجهة، وأن الرأي العام في أغلبه ضدّه. ما أسقط الانقلاب التركي، شبهُ الإجماع السياسي والحزبي على رفض العودة إلى الانقلابات العسكرية. في تونس، السياق يختلف والأجواء تختلف والتجربة كلّها تختلف.
أسوأ ما يجري في قراءة الأزمة التونسية، استدعاء تجارب الآخرين في غير موضعها وخارج سياقها، كأنها تُستنسخ بالكلمة والحرف! كانت ردود الفعل الدولية على ما جرى في تونس داعية بذاتها لأن يضع الغنوشي حدّاً لأيّ رهانات على ضغط دولي ما فاعل ومؤثّر بوجه خطوات سعيد التالية. انطوت البيانات الدولية على عبارات عامة عن ضرورة مواصلة المسار الدستوري. أبدت بعض التحفّظات والمخاوف من دون إدانة ما جرى، أو وصفه بالانقلاب. حقائق القوة والحسابات الدولية مالت إلى نوع من المعالجة للأزمة التونسية، أقرب إلى منطق سعيد، شرط أن يعود في أسرع وقت ممكن إلى المسار الدستوري. بدرجة أكبر من التأثير، صاغ المجتمع المدني التونسي إطاراً عاماً لإدارة الأزمة الداخلية يمنع الاحتكاك بالقوة، أو الانزلاق إلى الفوضى. اعترفت منظّماته عملياً بضرورات الإجراءات الاستثنائية، لكنها دعت في الوقت نفسه إلى توقيتها بشهر لا يزيد، وإعلان خارطة طريق للخروج من الأزمة، وتشكيل حكومة كفاءات لمواجهة الأزمات المستحكمة. في موازين القوى المستجدّة.
أخذ الرئيس حجماً جديداً في المعادلات السياسية التونسية. فاجأ العالم، وربّما فاجأ نفسه، بقدرته على التصرّف كـ»رجل قوي». استقطب القيادات العسكرية والأمنية معه، بنفس قدرته على استقطاب المشاعر العامة في الشارع، فيما تراجعت مكانة حركة «النهضة» بغضب الشوارع أكثر من القرارات الاستثنائية، حتى أصبح مستقبلها في مهبّ العواصف. يكاد سيناريو عودة المجلس النيابي بعد شهر أو شهرين إلى سابق عهده، يكون مستحيلاً من دون كلفة سياسية باهظة. ربّما يُجبر الغنوشي على مغادرة مقعده على رأس البرلمان بالحسابات المتغيّرة في بنيته، كانسحاب الهيئة البرلمانية لحزب «قلب تونس» من التحالف معه. الأرجح أن تُجرى صفقات كواليس قبل العودة إلى المسار الدستوري. ما حجمها وطبيعتها والقوى الدولية والإقليمية المتداخلة فيها؟ أسئلة تبحث عن إجابات في لحظة تحوّل جوهرية مفعمة بالمخاوف. ما طبيعة خارطة الطريق التي قد يعلنها الرئيس التونسي لتعديل النظامين السياسي والانتخابي؟ هل يَحلّ البرلمان بمقتضى استفتاء على التعديلات الدستورية، أم ماذا سيحدث بالضبط؟ وما القوى التي سوف تصعد على حساب حركة «النهضة»؟ وما مصير الحركة نفسها على المدى المنظور؟ هذه أسئلة أخرى تطرق الأبواب التونسية الملبّدة بالمخاطر، كما آمال تجاوز أزماتها إلى مستقبل أفضل تستحقّه.