تفسير الاعتداء على مواقع تابعة لـ«الحشد الشعبي» بالقرب من مدينة النجف العراقية، والذي قيل إنه نُفِّذ بطائرة مسيّرة (يُعتقد أنها إسرائيلية)، لا يجب أن يخرج عن سياق المواجهة التي تُخاض بين المحتلّ الأميركي من جهة، والمقاومة العراقية من جهة ثانية. مع ذلك، يمثّل هذا الاعتداء إشارة أخيرة إلى نجاح المقاومة، وإنْ كان منسوب الإنكار الأميركي لا يزال إلى الآن، مرتفعاً. أن تكون تل أبيب هي التي نفّذت الهجوم بإذن أميركي، أو أن لا تكون، لا يغيّر كثيراً في مسؤولية الاحتلال الأميركي، الذي يريد، على ما يبدو، أن يقلّص أيّ تداعيات لإقدامه بنفسه على تنفيذ العملية. في الخلفية، تُواصل معظم فصائل المقاومة العراقية العمل على تحقيق هدفها: إخراج القوات الأميركية من البلاد. وفي هذا السياق، تندرج العمليات العسكرية والأمنية التي تستهدف المحتلّ، سواءً عبر الصواريخ المُوجّهة عن بعد، أو عبر المسيّرات الانتحارية، أو عبر العبوات التي عرقلت خطوط الإمداد اللوجستية للقوات الأميركية، علماً أن تلك الهجمات التي توزّعت على جنوب العراق ووسطه وشماله، كان جزء منها معلَناً، وآخر تأخّر إعلانه، وثالث لم يعلَن إلى الآن. في المقابل، عمدت قوات الاحتلال إلى الردّ على عمليات المقاومة، إنْ على الساحة العراقية، أو خارجها. إلّا أن الردّ الأميركي فشل في تحقيق أهدافه الردعية، بل أدّى، كما يبدو من خلال الوضع الميداني، إلى تحفيز إضافي للمقاومين على مواصلة العمليات وتعظيم وتيرتها، علماً أن واشنطن تدرك مسبقاً أن التطرّف في ردودها كفيل بتغيير النظرة إلى هجماتها من مجرّد أفعال يُراد منها موازنة عمليات المقاومة في خدمة الردع، إلى اعتداءات ابتدائية، وهو ما من شأنه تحفيز العمليات العسكرية والأمنية ضدّ القوات الأميركية، على نحو كبير. ومن بين التداعيات المحتملة، هنا، والتي تقف أمامها واشنطن بحذر، أن «جماعتها» في العراق لن يكونوا على الحياد في حالات كهذه، وسيكونون مضطرين لاتخاذ مواقف علنية، تضيف «شرعية» إلى «شرعية» الجهات المعادية لها في العراق.
الواضح أن العمليات العراقية، التي جاءت مدروسة ومتقنة، أعطت نتائجها إلى الآن، من دون دفع المحتلّ إلى خطوات لا يعرف هو نفسه نتائجها الأخيرة وما سيعقبها. إذ هي حرّكته نحو العمل على إعادة تموضع قواته، عبر اتفاقات مع الجانب العراقي الرسمي، يراد من خلالها نزع صفة الاحتلال عنه، بعد إعطائها «شرعية وجود» من مسمّيات وعناوين أخرى، ومن بينها أن تكون قوات استشارية وتدريبية ولوجستية. وهو بذلك الفعل الدفاعي يحاول تغيير نتائج الفعل المقاوِم واستباق تحقُّقها، عبر الهروب من الانسحاب الكامل، في تحوير ترفضه فصائل المقاومة تماماً، ويدفعها إلى مواصلة عملياتها، ليس بفعل الإصرار على طرد المحتلّ فقط، بل بتحفيز من اندفاع الأميركي إلى الحديث عن نوع من «الانسحاب»، وإن كان شكلياً.
على ذلك، يُعدّ تواصل العمليات عاملاً رئيساً لمنْع المفاوض العراقي، الذي يقال عنه إنه يقف في صفّ المحتلّ، من تمكين الأخير من ترسيخ نفسه في العراق، عبر عقد اتفاقات معه تعطي وجوده الشرعية التي يفقدها. إلّا أن التفاوض بالنار يُردّ عليه، مع الإمكان، بالنار أيضاً. وهنا الحديث لا يتعلّق بعمليات ابتدائية تشنّها المقاومة العراقية ضدّ الاحتلال، بل أيضاً عن العمليات المقابلة، التي لم يعد بالإمكان وصفها بـ«الردّية»، بعدما دخلت هي أيضاً في سياقات تعزيز أوراق الاحتلال في فرض إرادته على المفاوض العراقي. وعليه، تكون عمليات المقاومة، كما اعتداءات الاحتلال، ابتدائية، وهي مخصّصة من الجانبين لتحقيق أهداف متعارضة: طرد المحتلّ من جهة؛ وتثبيت وجوده من جهة أخرى.
يُعدّ بقاء المحتلّ أو خروجه قراراً أميركياً في الأساس، مبنيّاً على معادلات الخسارة والجدوى


وعلى فَرَض أن إسرائيل هي التي نفّذت الاعتداء الأخير بالقرب من مدينة النجف، فتكون تدخّلت بالأصالة عن نفسها، كونها جهة معادية لـ«الحشد الشعبي» لذاته ولما يمثّله ضمن محور معادٍ لها، كما تكون متدخّلاً بالوكالة عن الولايات المتحدة. وإذا كان اليقين الذي لا يمكن المسّ به، أن ما تقدر إسرائيل على تنفيذه يقدر الاحتلال الأميركي عليه، بل وينفّذه بمستويات أكبر وأكثر دقّة، فتكون أميركا، عبر سماحها بل ودفعها إسرائيل إلى ما أقدمت عليه، كشفت عن ضعف في موقفها، حتى وإن زامنت فعلها مع زيارة رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، إلى واشنطن، والتي تُعدّ مهمّة جداً في تحديد مدى إمكانية فرْض الإرادة الأميركية على العراقيين.
عمدت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، لدى اضطرارها للانسحاب من العراق عام 2011، إلى التخطيط للإبقاء على قوات استثنائية قادرة على التدخل العسكري والأمني المباشر في العراق وخارجه، بمعنى الإبقاء على قاعدة عسكرية متقدّمة في المنطقة إلى جانب القواعد الأميركية الأخرى، على أن تكون قابلة للتطوير والتعزيز. وقضت الخطة الأميركية، في حينه، بإيجاد هذه القاعدة تحت مسمّى «حماية السفارة الأميركية» كما المقرّات الدبلوماسية في العراق على اختلاف محافظاته، ما يتيح لأوباما تلقّي فوائد الانسحاب، من دون أن يخسر فوائد البقاء. كانت المواجهة آنذاك على أشدّها بين فصائل المقاومة ومَن معها من جهة، وبين المحتلّ الأميركي ومَن معه من جهة ثانية، لتؤول الغلبة إلى إرادة المقاومة، التي فرضت الانسحاب الكامل على الأميركيين. تجري الآن مواجهة بين الجانبين هي إلى حدّ ما شبيهة بما مضى. إذ تسعى إدارة بايدن إلى ما سعت إليه سابقتها، التي راهنت على منْع الانسحاب الكامل، كما تريده المقاومة وتعمل عليه. لكن إن أصرّت الفصائل العراقية على قرار إخراج المحتلّ، مع العمل على تحقيق هذا الهدف ميدانياً على رغم الاعتداءات والمساعي الأميركية المضادة، فستكون النتيجة مشابهة: إخراج المحتلّ من العراق.
في الواقع، يُعدّ بقاء المحتلّ أو خروجه قراراً أميركياً في الأساس، مبنيّاً على معادلات الخسارة والجدوى، والتي تتقدّم محدّداتها إرادة فصائل المقاومة تدفيع الاحتلال ثمناً، إن قرّر البقاء في البلاد. ولا تختلف المعادلة هنا، سواء كان الاحتلال بعنوان قوات قتالية، أو قوات تحارب الإرهاب كما تقول، أو قوات مساندة واستشارية للقوات العراقية. كما لا تتوقّف المعادلة كثيراً على إمكان توقيع اتفاقات مع جهات رسمية في العراق، هي في هويتها السياسية تراعي الجانب الأميركي، بل بموقف قوى المقاومة التي تقرّر هي إن كانت ستواصل العمل ضدّ الأميركيين، أم إن كانت ستنكفئ عنه. على ذلك، فإن مجرد الاتفاق مع الكاظمي لا يعني أن العمل المقاوِم سيتوقّف، بل هو قرار يأتي نتيجة للحرب التي يخوضها الطرفان الآن، أي الاحتلال والمقاومة؛ فإن استطاع المحتلّ أن يفرض إرادته على الفصائل، ويدفعها إلى التراجع، فسيكون ثمن البقاء منتفياً، وحينها فقط سيعني الاتفاق مع الكاظمي فرض الإرادة الأميركية على العراق، ما يتيح لواشنطن الإبقاء على قواتها. أما إن خسر الاحتلال الحرب في مواجهة المقاومة، فلن يجديه أيّ اتفاق رسمي، مهما كان مستواه، إلّا في كسب معركة سياسية ضدّ فصائل المقاومة، في سياق الحرب نفسها.