لم تكن الاستجابة الحكومية للأزمة الصحية بحجم مخاطر الوباء على حياة السوريين؛ فالجهات الرسمية قرّرت باكراً تغليب المصلحة الاقتصادية على تلك الصحية، في ضوء الظروف المعيشية القاسية التي تعيشها سوريا، من جرّاء الحرب والحصار الاقتصادي المفروضَين عليها. على الجهة المقابِلة، لم تكن استجابة المواطنين أنفسهم، أشفى حالاً، إذ أبدت غالبيتهم استهتاراً وإهمالاً وصل أحياناً إلى حدِّ إنكار أصل وجود الوباء. ومع تجاوز البلاد مرحلةَ ذروة تفشّي الفيروس، وبدء توفّر اللقاحات المختلفة للراغبين في تلقّيها، لم يُسجَّل إقبال شعبي حقيقي على التلقيح، وهو ما تؤكده الأعداد المتدنية للملقَّحين في عموم البلاد، فيما تتمدَّد الشائعات كالنار في الهشيم حول «المخاطر» المفترضة للقاحات، وإمكانية تسبُّب بعضها بالوفاة، ما دفع الكثيرين إلى الإحجام عن تلقّيها، وخصوصاً منها «أسترازينيكا» البريطاني، بينما تلوذ الحكومة بالصمت حيال ادّعاءات تسجيل وفيات بعد التلقيح
لم تتعدَّ مدّة التزام الإجراءات الاحترازية من فيروس «كورونا» في سوريا شهرَي آذار ونيسان 2020، ليتلاشى بعدها التباعد الاجتماعي والكمامات وقيود الحركة. لكن منحنى الإصابات المسجّلة رسمياً بقي في حدوده الدنيا، مقارنةً مع دول الجوار والعالم، إذ لم يتجاوز، في أسوأ الحالات، الـ 170 إصابة يومياً.

الأرقام تجافي الواقع
في 22 آذار 2020، أعلنت الحكومة السورية تسجيل أوّل إصابة بالفيروس في البلاد، لفتاة قادمة من أوروبا، بينما سبق ذلك إعلان السلطات الصحية في باكستان تسجيل 7 إصابات بالفيروس لأشخاص قادمين من سوريا، فيما أعلن العراق عن مصابَيْن اثنين جاءا أيضاً من سوريا، ليتأكد، منذ ذلك الحين، أن التشخيص الرسمي لا يعكس نسبة الإصابات في البلاد. ويقول عضو الفريق الاستشاري الحكومي لفيروس «كورونا»، الدكتور نبوغ العوا، لـ»الأخبار»، إن «عدد الحالات غير المسجّلة، يفوق بأضعاف تلك التي تم تشخيصها رسمياً».
لكن الحكومة التي أخذت احتياطاتها في الموجة الأولى، سرعان ما استسلمت للمفاضلة بين العجلة الاقتصادية والإجراءات الاحترازية، وأعادت فتح البلاد، بسبب عجزها عن تحمّل خسائر الإغلاق، وتعويض الذين تعطّلت أعمالهم. فهي لم تفرض أصلاً إجراءات احترازية صارمة حتى في دوائرها، إذ يقول العوا إن «الاستجابة المجتمعية لدعوات الفريق المعني بكورونا للالتزام قوبِلت باستهتار شديد». والسيناريو ذاته يكاد ينطبق على مختلف مناطق سوريا، حيث سُجّلت في شمال شرق البلاد نحو 18540 إصابة، وفي شمال غربها 25913 إصابة (سجّلتها الجهات الصحية غير الحكومية)، في ظلّ وجود اختلافات نسبية في الإجراءات بينها وبين مناطق سيطرة الحكومة التي سجّلت 25735 إصابة حتى 8 تموز الجاري.
تعكس الأعداد المتدنّية للملقَّحين عدم اهتمام السوريين بخطر الفيروس


تدخّل القدر!
تمتلك سوريا حوالى 1000 سرير مخصّص لمصابي «كورونا»، بحسب ما أعلنت وزارة الصحة في آذار 2020، أُضيف إليها، في آب الماضي، نحو 400 جهاز تنفّس اصطناعي لاستيعاب الزيادة في نسبة الإصابات. إلّا أن الأسرّة وأجهزة التنفّس، لم تُشغّل جميعها بشكل متزامن حتى في أسوأ حالات تصاعد الإصابات، وفق بيانات وزارة الصحة. وفي الوقت ذاته، كانت أعداد الوفيات في سوريا تسجّل معدّلات متدنّية مقارنة مع دول أخرى، حيث يقول مصدر في دائرة الوفيات في دمشق، لـ»الأخبار»، إن «أعداد الوفيات بلغت 55 حالة وفاة يومياً في أوقات ذروة انتشار الفيروس، وكانت تهبط خارجها إلى ما بين 10 و20». ويصف العوا ما حدث في سوريا بأنه «تدخُّل القدر الذي منع وقوع البلاد في كارثة وبائية. فعلى رغم أعداد الإصابات الكبيرة غير المشخّصة، إلّا أن الوضع بقي تحت السيطرة». وإذ يرفض الجزم بأن سوريا وصلت إلى مرحلة «المناعة»، لكنه يلفت إلى أن «منحنى الانتشار حالياً مسطّح، وأعداد الإصابات في انخفاض مستمرّ».

الاستعانة برجال الدين للترويج للقاحات
خلال ذروة انتشار الفيروس، لم يبدِ الناس اكتراثاً بالأزمة الوبائية، حتى إن بعضهم لم يعترف بأصل وجود المرض. ولدى بدء توفّر اللقاحات، قوبل الأمر بعدم اهتمام تعكسه الأرقام المتدنّية لأعداد الملقَّحين لدى وزارة الصحة، حيث سُجّل، خلال 21 يوماً، تلقيح 520 شخصاً فقط في مدينة بانياس الساحلية التي يصل عدد سكانها إلى 200 ألف، وفي درعا جنوب سوريا لم يتجاوز العدد، حتى 17 حزيران، 2044 ملقّحاً بمن فيهم ذلك الكوادر الطبية. هذا الإقبال الضعيف، دفع بعض مراكز التلقيح إلى إتاحة اللقاح مباشرةً للراغبين دون الحاجة إلى التسجيل عبر المنصة المخصّصة له، بينما استعانت مديرية الصحة في دير الزور برجال الدين لتشجيع المواطنين على التلقيح، فيما أوقفت محافظة درعا استخدام لقاح «أسترازينيكا» لتبديد مخاوف المواطنين.
وتقول ملك (31 سنة)، والتي تقيم في دمشق، إنها لا تهتم بتلقّي اللقاح، كونها لم تشعر بالخوف من كورونا، ولم تعانِ من الإغلاق ولا التباعد، ولا الآثار السلبية للفيروس، وبالتالي «لا حاجة لتلقّي اللقاح» الذي «لن يغيّر شيئاً في حياتي ولن يريحني من أعباء لا أعاني منها أصلاً». ويعزو العوا عدم الإقبال على التلقيح إلى «الخوف الذي ولّدته الشائعات التي تنتقل كالنار في الهشيم عبر مصادر وفيديوات تفتقر إلى أدنى مصداقية»، مشيراً إلى أنه «يدعم التلقيح، ويثق علمياً بأن جميع اللقاحات تحقّق المناعة، بما في ذلك أسترازينيكا الذي يُنصح الالتزام بقواعد وزارة الصحة في تلقّيه»، مؤكداً أن «اللقاحات متوفّرة بكثرة في البلاد ومستمرة في الوصول إليها».