لا يعني قرار رئيس وزراء العدو، نفتالي بينت، إعادة النظر في سياسات تل أبيب تجاه القضية النووية الإيرانية، أن الكيان الإسرائيلي في طور الدخول في تحوّل دراماتيكي نحو خيارات غير مسبوقة. ذلك أن الخيارات الذاتية المتاحة أمام إسرائيل ضيّقة ومحدودة، ومفاعيلها أكبر من أن تحتملها لوحدها. لكنّ هذا القرار، الذي يأتي قبيل اجتماع بينت مع الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، يؤشّر إلى جملة عوامل تَحمل إسرائيل على التحسّب لسيناريوات أكثر خطورة على أمنها القومي ومستقبلها ممّا واجهته سابقاً، خصوصاً في ظلّ بلوغ المفاوضات النووية مرحلة حاسمة، وتَغيّر معادلات القوّة في الإقليم. على مستوى الدوافع الذاتية في هذه المرحلة، ما يهمّ بينت هو أن يُثبت أنه أهل لقيادة إسرائيل في مواجهة التحدّيات الماثلة أمامها، وأن يُقوِّض المقولات التي روّجها سلفه، بنيامين نتنياهو، ومجمل معسكر اليمين، حوله. هكذا، يبدو بينت كَمَن يحاول تعديل سياسات نتنياهو، من دون أن يَخرج عن جوهرها، ولا سيما أن هناك إجماعاً في كيان العدو على أولوية التهديد النووي الإيراني وعلى ضرورة مواجهته. كذلك، تعمل حكومة بينت على تصحيح ما تقول إنها أخطاء نتنياهو، خصوصاً في العلاقة مع الولايات المتحدة، حيث تعتبر أن رئيس الوزراء السابق ذهب بعيداً في معاكسة واشنطن بما أظهر ضعفاً استراتيجياً إسرائيلياً في المنطقة، ولم يخدم أيّ غرض معقول، كما يقول مسؤول إسرائيلي. ولذا، يحرص بينت على تجنّب الصدام مع بايدن. ومع بلوغ مسار محادثات فيينا نقطة حاسمة، وفي ظلّ تمسّك إيران بمطالبها، تجد تل أبيب الحاجة ملحّة إلى التنسيق مع واشنطن بعد مرحلة من المكابرة والعناد لم تُحقق شيئاً. ومن هنا، عَقد بينت أوّل اجتماع لبحث السياسات الإسرائيلية حيال الملفّ الإيراني، بمشاركة وزيرَي الخارجية يائير لابيد، والأمن بيني غانتس، وقادة الأجهزة الأمنية والاستخبارية، ليتمّ التوافق على عقد مزيد من اللقاءات للغاية نفسها، قبيل الاجتماع مع بايدن نهاية تموز الجاري. والجدير ذكره، هنا، أن بينت يحتاج إلى هذا النوع من الجلسات من أجل تحديث معلوماته، خصوصاً في ما يتعلّق بالجوانب التقنية للبرنامج النووي الإيراني، من أجل أن يكون على اطّلاع تام عند مناقشة القضية مع قادة العالم، وعلى رأسهم بايدن.
وفي ضوء تعثّر المفاوضات النووية أخيراً، اختلطت مجدّداً التقديرات الإسرائيلية حول مآلات هذا المسار، بعدما سَجّلت طويلاً حالة من الإرباك والضياع في استشراف المستقبل. إذ بعدما كان الانطباع السائد بأن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي ورفعها العقوبات عن إيران مسألة محسومة وقريبة، عادت الأجهزة الاستخبارية لتبدّل قراءاتها. وفيما قدّر بعضها أن العودة إلى الاتفاق لن تتمّ قبل تسلّم الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، مهامه، وأن التأخير متعمّد من جانب إيران، في محاولة للإيحاء بأن رفض طهران لعروض واشنطن مردّه حسابات سياسية، لا سقف المطالب التي حدّدتها القيادة الإيرانية العليا؛ ذهبت تقديرات أخرى إلى أن الهوّة عميقة إلى درجة كفيلة بتفجير المفاوضات، وهو رأي يتبنّاه «الموساد». ومن بين التقديرات السائدة أيضاً أن إيران ستؤخّر حسم موقفها لعدّة أشهر من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات النووية، التي ستوظّفها في المفاوضات.
تدرس القيادة الإسرائيلية المخاطر والفرص في كلٍّ من السيناريوات الماثلة أمامها


إزاء ذلك، تدرس القيادة الإسرائيلية المخاطر والفرص في كلٍّ من السيناريوات الماثلة أمامها. وبحسب مسؤول إسرائيلي رفيع، «يدور الجدل الأساسي حول ما إذا كانت إسرائيل حقاً هي أفضل حالاً في السيناريو الحالي - من دون اتفاق ومع تسريع إيران لبرنامجها النووي - مقارنة بعودة الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال لاتفاق 2015». ويكشف هذا النقاش أن القيادة الإسرائيلية بدأت تتّخذ منحًى أكثر واقعية في مقاربة الملفّ النووي الإيراني، إذ لم تَعُد مقاربتها مقصورة على تأكيد مواقفها المبدئية في هذا الإطار، بل يبدو أنها تَهْجر سياسة «إمّا كلّ شيء أو لا شيء»، بعدما أثبتت التجارب فشل تلك السياسة في التأثير على التوجّهات الأميركية والإيرانية على السواء، وأيضاً انطلاقاً من التسليم بقيود القوّة ومعادلاتها، على إثر القفزة النوعية التي حقّقتها إيران وحلفاؤها في المنطقة، وأقرّ بها رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، في إحدى محاضراته في واشنطن. وفي الإطار الواقعي نفسه، تندرج التعليمات التي سبق أن وجّهها بينت إلى الوفود الإسرائيلية في واشنطن بالدخول في تفاصيل المفاوضات النووية، على خلاف ما كان نتنياهو يصرّ عليه من ضرورة العزوف عن ذلك، تلافياً لتصدير انطباع بأن اسرائيل على استعداد للتعايش مع صيغ مُحدَّدة للاتفاق. ويؤشّر حصر النقاش داخل الأجهزة السياسية والاستخبارية والعملياتية، بين سيناريوَي استمرار الوضع الحالي أو العودة إلى الاتفاق، بأن هناك قدراً من التسليم بأن لا أمل في فرض تحوّلات مفصلية في المسارات القائمة، أو في ردع إيران عن خياراتها النووية، وبأن هناك سقوفاً لن تقبل الأخيرة تجاوزها مهما كانت الأثمان. لكن ما ينبغي أن يحضر في خلفية قراءة المقاربة الإسرائيلية المستجدّة، هو أن هذا التحوّل لم يتبلور إلّا نتيجة فشل سياسة «الضغوط القصوى» التي فرضها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.
في كل الأحوال، الواضح أن خطورة التحدّي ومحدودية الخيارات تفرضان على تل أبيب إجراء المزيد من المداولات من أجل اتّخاذ قرار في شأن السياسات الإسرائيلية المحدَّثة، ومن ضمنها، وبشكل رئيسي، إمكانية التأثير على توجّهات إدارة بايدن وكيفية تحقيق ذلك. وفي هذا الإطار، حسم مسؤول إسرائيلي رفيع مطّلع على الاتصالات بين واشنطن وتل أبيب، بعد أول جلسة مباحثات إسرائيلية داخلية، أنه «ليست لإسرائيل اليوم قدرة على التأثير في بنود الاتفاق النووي الذي يجري بحثه في فيينا»، خصوصاً أن بينت يريد تجنّب المواجهة العلنية مع بايدن في شأن القضية الإيرانية، بعدما أثبتت هذه السياسة فشلها في المراحل السابقة؛ فلا إيران ارتدعت، ولا إدارة باراك أوباما امتنعت عن إبرام اتفاق، ولا إدارة بايدن مقتنعة بعدم العودة إلى الاتفاق.