لطالما كان اسم أحمد جبريل يوحي بصورة المقاتل الشرس، المعنى العالي للمقاومة، والاسم الحركي للفدائي، والقائد الذي أسّس لمدرسةٍ تحرّرية ثورية تؤمِن بأن هناك شيئاً نستحقّ العيش من أجله، وعلينا أن نكون مستعدّين للموت في سبيله.جبريل، أيقونةٌ كفاحيّة حملت البندقية ومضت بإخلاص وصلابة وتفانٍ منذ أول الطريق. مقاتل يافع في أحراش جرش وعجلون ووديان نهر الأردن، إلى الجولان وجنوب لبنان، ظلَّ دائماً على تخوم فلسطين، يقود الدوريات الراجلة ومجموعات تتلمَّس دروب العبور نحوها، من أبطال التحرير ورجال الـ»ج. ت. ف»؛ بواكير القوافل تدشّن العمل العسكري، بأمرٍ من الخبير الهندسي المُميَّز والعقل المُدبِّر للكفاح المسلّح الذي تقدَّم، بشجاعة نادرة، كلّ فعلٍ نوعي وفني. جبريل الشاب المشتعل حماسةً، وصاحب الكار المبتكر، والمحترف في كل إضافةٍ لعمليات المقاومة. دائماً كان ابن الموت، بينه وبين الشهادة خطوة أو طلقة أو لغم أو كمين ودسيسة؛ منهم مَن تجاوزه وسبقه على درب الشهادة، ومِن رفاق التأسيس الذين ظلّوا على درب المقاومة، قبل نكسة حزيران عام 1967، يوم قرّروا أن الردّ يكون بولادة جيل البطولة، الذي خطَّ بالدم اسم فلسطين، ومدرسة حرب العصابات الثورية، الفدائيون الذين صاغوا الوطنية الفلسطينية الحقَّة وعمّدوها بدمائهم، حتى يظلّ الدم المشعّ بالحياة في صدور شعب يستحقّ الحقّ.
أحمد جبريل الذي ودّع فلذة كبده، جهاد، وزفّ الشهداء، وظلّ طوال حياته مشروع شهيد، فصار رمزاً من رموز فلسطين، تعيشه ساحاتها وميادينها ومدنها ومخيماتها، في الأغاني والقوافي والحكايات والقصائد وأهازيج الحارات والمخيمات. مِن عملية الخالصة إلى تحرير الأسرى، وفي مقدِّمهم البطل الأممي الياباني كوزو أوكاموتو، غير القابل للمساومة: «تُلغى الصفقة كلّها، إنْ لم يكن كوزو الرقم واحد فيها»، قال جبريل.
لا أجنده مخفيّة للشهيد؛ يخطّ أجندته بدمه، وهو مَن حفظ وقرأ وأخلص لتاريخ وطنه وأمجاده. ولأيّ أجندة تكون مدرسة أبو جهاد الذي أدرك حقيقة الاحتلال وجوهر الصراع وطبيعة العدو؟ الأجندة الوحيدة التي يؤمِن بها هي المقاومة، لأنه يعرف معنى فلسطين ولا يخطئ الهدف أبداً. لذا، حمل سلاحه وروحه على راحتيه، بلا غاية، إلّا ما جاء على لسان الشهيد عبد الرحيم محمود:
[سأحمل رُوحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الرَّدى/ فإمَّا حياةٌ تسُرُّ الصديقَ
وإمَّا مماتٌ يغيظ العدى/ ونفسُ الشَّريفِ لها غايتان: ورودُ المنايا، ونيل المنى].
سيرةٌ ممزوجة بالتغريبة الفلسطينية، وتاريخٌ يتدفّق بكل قهر وغضب وحدّة، وأحياناً بخشونة... لا تفسِّر نسبة الغضب إلّا قساوة واقع هجين أنتجته التسويات المذلّة التي رفضها جبريل بكل ما في ذاته من حقيقة وانتماء، مناضلاً ضدّ الخديعة، يؤمِن بأن التسوية وهمٌ لا يحرّر الأرض ولا الإنسان.
ظلَّ جبريل متمسّكاً بالثورة الأولى وبالطلقات التي أسَّست لإدامة الصراع


يكبر الفدائي فيه كلّما ازداد الاحتلال احتلالاً وعنصريةً، والاستيطان تغوّلاً، ينمو ويتمدّد، فيما يتحوّل «أوسلو» إلى قيدٍ لحلمه وتطلّعاته، وإلى وقائع احتلالية مريرة وجديدة... عندما شاهد الجدار العنصري الذي لا يرى منه غروب الشمس، والحواجز والاغتيال والقتل بالرصاص الحيّ وحرق العائلات على يد المستوطنين، سأل: لماذا لا يُحاكَم المجرم الصهيوني الذي يقتل فتىً على الهواء مباشرة وبدمٍ بارد؟
كانت كل خلاياه تقول: سجِّل أنا مقاوم ضدّ الاحتلال. يؤمِن جبريل يقيناً - بالوعي وبالتجربة المعاشة - بأن لا سبيل للخلاص النهائي من الاحتلال، سوى بالمقاومة المستمرّة ضدّ الغطرسة. فالعدوّ يستمدّ قوّته من عجزنا وفرقتنا، ومن المفاوضات العبثية، والانقسام والهدن المتتالية، ومعاهدات الصلح الذليلة التي لا تفضي إلّا إلى مزيد من الاحتلال والسكون والهوان والخذلان. المبدئي الذي لا يزيح عن الخطّ المستقيم، لا يعرف الطرق المتعرّجة. هاجسه جنون الاحتلال، وهو يفرّط ويدمر ويجزئ ويقسم الشعب الفلسطيني والوطنية الفلسطينية. يطالب بقوّة بإنهاء رسمي للتسوية؛ وبعفويةٍ يطلق العبارات الأكثر نقداً، ساخراً من غباء السياسة التي تستجدي إحياء المفاوضات مع العدو دائماً. ويرى كيف ينكشف الوجه الحقيقي للإمبريالية الأميركية. فالذي يدعم الوحشية والظلم والقتل والفوضى، لن يحترم أيّ قيم، ومَن أراد للصهيونية أن تسود هو مَن يرعى الفتنة والقتل والوحشية والتطبيع مع العدو.
ظلَّ جبريل متمسّكاً بالثورة الأولى وبالطلقات التي أسَّست لإدامة الصراع، وصولاً إلى الصاروخ الذي هزّ عقيدة الاحتلال، وكذلك بالحلّ الثوري من خلال استراتيجية شاملة للبناء وتطوير وتحديث المقاومة وتوحيد صفوفها وتجديد الشرعية الكفاحية كمدخل لإنقاذ الوطنية الفلسطينية من محاولات تفكيك مكوّناتها وقتل رموزها، ورمزيتها، وعبر تصعيد الاشتباك التاريخي مع الاحتلال. كان يردِّد أن خيارنا لحماية الذات، الوفاء للشهداء، وأن التلاعب على التناقض الرئيس سيخدم الاحتلال، لأن هناك مَن يدفع لتحويل الصراع إلى غير أماكنه، باستخدام الغضب وإثارة الغرائز والعصبوية والفئوية والاتهامات والتخوين... استمرار الانقسام لن يُبقي لا وحدة ولا وطنية، وسيتحوّل التعامل إلى بلديات تشبه روابط القرى والانتخاب جزئي ومحلي وليس إلّا رفع عتب، ونكون عندها قد ترجمنا ما خطّطه لنا أعداء شعبنا.
أما المخيم الذي أوصى أن يحتضن رفاته الطاهرة، للدلالة على مكانة ودور الشتات كركن رئيس في المشروع الوطني الفلسطيني الرافض لتشويه دور المخيّم وتدمير قضية اللاجئيين عبر سياسات الإقصاء. المخيم الأمانة، تركها للأجيال أن لا وطن لنا نذهب إليه ونحلم به ونريد سكناه ونحيا ونموت في سبيله إلّا فلسطين. وكل مَن يؤمن بالقضيّة العادلة عليه أن يدعم أبناء القضيّة، لا باجترار الماضي وإثارة الكراهية، ولا بالعزف المنفرد والمسيء من أحداث إجرامية تقف خلفها البيئة السلبية وأصابع دخيلة... مهمتنا جميعاً تحويلها إلى بيئة إيجابية، مدخلها سياسي وليس أمنياً فقط، أن نتعامل نحن كفصائل أولاً بالأولويات السياسية. كان يعتبر أن الإرهاب ظاهرة عابرة للحدود والدول، ومن غير المقبول إلصاقه بالمخيمات... ناضل عند حدود الواجب بحفظ الوجود الفلسطيني والهوية الوطنية والانتماء للأمّة.
وداعاً يا أبا جهاد، لك الوفاء ومنّا العهد، سيظلّ أمثالك، من رجال البنادق، أبجدية الثورة، أوسمة في ذاكرتنا وتاريخنا، وفجرنا، وعلى جبين سمائنا، وأرضنا، وحقولنا، وعلى صدور كل شعبنا.