رام الله | كانت مجرّد تظاهرة سلمية يهتف فيها المئات للناشط نزار بنات، وبشعارات من قبيل: «ارحل ارحل يا عباس»، إلى أن قرّر المشاركون فيها التوجّه نحو مقرّ رئاسة السلطة «المقاطعة»، لينهال عليهم، بعد دقائق معدودة، عناصر أمن السلطة «المتنكّرون» بزيّ مدني بالضرب والهراوات ووابل من الحجارة. هكذا كان المشهد وسط رام الله أوّل من أمس السبت، مشهد «القمع الوحشي الإجرامي والاعتداءات غير القانونية»، كما وصفته معظم الفصائل الفلسطينية والمؤسّسات الحقوقية المحلّية والدولية. أسفر هذا القمع عن عدّة إصابات، من بينها لصحافيين وصحافيات، كان واضحاً أنهنّ مستهدفات بشكل متعمّد، ومنهن: سجى العلمي، نجلاء زيتون، شذى حماد وأخريات. كذلك، أكد فريق «محامون من أجل العدالة» إحالة 10 معتقلين إلى النيابة العامة في رام الله، بتهمة التجمهر غير المشروع، على خلفية المشاركة في التظاهرات المندّدة باغتيال بنات.على هذا النحو، تحوّلت التظاهرة، سريعاً، إلى ميدان مواجهة بين المتظاهرين الرافضين لاغتيال بنات من جهة، وعناصر أمنيين بزيّ رسمي، ومن خلفهم آخرين بزيّ مدني (يرتدون كمّامات)، في مشهد يعيد إلى الأذهان تجارب سابقة لـ»عناصر أمنيين يرتدون البيجامات ويحملون الهراوات»، خلال قمع حراك شعبي سابق في المكان نفسه. وبعد إخلاء المتظاهرين بالقوّة من دوار المنارة وسط رام الله، نظّمت مجموعات من العناصر الأمنيين ذوي اللباس المدني، مع كوادر في حركة» فتح»، وقفة مؤيّدة لرئيس السلطة محمود عباس، في ظلّ هتافات تنادي بحماية الأخيرة وقمع المتظاهرين من خصومها. وتقول مصادر لـ»الأخبار» إن أسلوب «التظاهرة المضادّة» سيستمرّ باعتباره «الأسلوب الأنجع» وفق رأي أمن السلطة، «لأنه يعفيها من المسؤولية المباشرة أمام القضاء في حال شكاوى المتظاهرين أو المؤسّسات الحقوقية»، كما أنها تعتمده في محاولة إقناع الرأي العام بأن ما يجري هو «اشتباكات داخلية بين متظاهرين مختلفين فقط، وليس قمعاً أمنياً».
وعلى إثر تلك التطوّرات، قال مكتب الأمم المتحدة في فلسطين: «نشعر بالصدمة من سلوك الأمن الفلسطيني، وفريقنا شهد استخداماً وحشياً للقوّة ضدّ المتظاهرين ومنع عمل الصحافيين، ويجب التحقيق في استخدام القوّة المفرطة ومحاسبة المسؤولين». وأكد مدير «مؤسسة الحق»، شعوان جبارين، من جهته، أن عناصر الأمن اعتدوا على الصحافيين التابعين للمؤسسة والصحافيين الآخرين، على رغم ارتدائهم الزيّ الصحافي، معتبراً أن ما جرى من ضرب وتنكيل بالمتظاهرين لا يمكن أن يكون سلوك أمن أو قانون. كذلك، صدرت إدانات شعبية وفصائلية وحقوقية واسعة داخل فلسطين ومن خارجها، ومطالبات بمحاسبة المسؤولين عن إعطاء تعليمات لأمن السلطة بقمع المتظاهرين.
يبدو أن التظاهرات المندّدة باغتيال الناشط نزار بنات ستستمرّ خلال هذا الأسبوع على أقلّ تقدير


لكن في المقابل لقيادة السلطة وبعض ممثّلي حركة «فتح» رأي آخر، يقوم على «تخوين المتظاهرين وأنهم أصحاب أجندة خارجية ومدفوعون من قوى ومحاور إقليمية ومن محمد دحلان وحركة حماس». وفي هذا الإطار، نفى الناطق باسم الأجهزة الأمنية، طلال دويكات، وجود أيّ عناصر أمنيين بلباس مدني على دوار المنارة وسط رام الله أول من أمس، بينما هدّدت حركة «فتح» في الضفة الغربية بأن «المشروع الوطني ليس للمقامرة وسنحميه بالدم، ولن نسمح لأيّ كان بحرف البوصلة، ونرفض استغلال حادثة المتوفّى نزار بنات من أطراف مأجورة أياديها ملطّخة بدماء شعبنا لمحاولة إثارة الفتن والقلاقل في مجتمعنا». أمّا الناطق باسم «فتح»، حسين حمايل، فرأى أن «هناك خونة سنتصدّى لهم، وهم مجموعة مرتزقة بأجندات معادية لشعبنا تريد خلق حالة عدم استقرار للمواطنين وتعتدي على ممتلكاتهم»، فيما قال القيادي في الحركة، عبد الإله الأتيرة: «سنكون فدائيين كما كنّا في معركة الكرامة، للدفاع عن مشروعنا الوطني، وفتح ستكون في الشارع في وجه من يتمادى ضدّ أفراد الأمن ولقمة عيشنا». في المقابل، ذهب محافظ جنين، أكرم الرجوب، في اتجاه آخر، عادّاً أن كلّ ما يجري في الضفة الغربية من أحداث حالية «يخدم الحكومة اليمينية الإسرائيلية وفرصها في السيطرة على الأرض، والمطلوب هو رأس حركة فتح والنظام السياسي».
وواصلت أجهزة أمن السلطة، أمس، الاعتداء على المتظاهرين وسط رام الله لليوم الثالث على التوالي، حيث أسندت حركة «فتح» الأجهزة الأمنية عبر تنظيم مسيرة في دوار المنارة، وهو المكان نفسه الذي كان مقرّراً تنظيم تظاهرة مندّدة باغتيال بنات فيه، وفي التوقيت نفسه. وحاول المتظاهرون المناورة وتجنّب الصدام عبر نقل مكان التظاهرة من المنارة إلى دوار الساعة، وتأخيرها عن تظاهرة «فتح» لساعة. لكن عناصر أمنية بلباس مدني وبعض كوادر «فتح» هاجموا المحتجّين هناك أيضاً، وقمعوا صحافيين وكسّروا معدّات بعضهم ومنعوهم من التغطية. وعلى إثر ذلك، امتدّت التظاهرات إلى الخليل وبيت لحم، التي شهدت مواجهات بعد قمع أمن السلطة تظاهرة أمام مقرّ «المقاطعة»، تخلّلها إلقاء زجاجات حارقة باتجاه الأمن، فيما أصيب عدد من المتظاهرين بقنابل الصوت والغاز.

لماذا القمع في رام الله؟
إجابة السؤال المتقدّم تتمحور حول رمزية المدينة كمعقل للسلطة الفلسطينية وقياداتها، وكمقرّ للمنظّمات الحقوقية والمؤسّسات المختلفة، إضافة إلى قوّة التظاهرات فيها وكونها تجمّعاً للشبّان من طبقات اجتماعية وفصائل سياسية متنوعة، كما أن هناك خشية من توجّه المتظاهرين إلى مقرّ الرئاسة، وهو ما يتكرّر منذ سنوات، لكن أمن السلطة يمنعهم من الوصول إلى المقرّ. وبحسب مراقبين، يبدو أن التظاهرات المندّدة باغتيال الناشط نزار بنات ستستمرّ خلال هذا الأسبوع على أقلّ تقدير، فيما قابلية التصعيد في الميدان واشتعال المشهد العام منوطة بوقوع أيّ حدث دراماتيكي مفاجئ. فالمتظاهرون مصرّون على الاستمرار في تحرّكاتهم، في حين بات واضحاً أن أمن السلطة لن يسمح بوصولهم إلى «المقاطعة» بأيّ ثمن، وأن انتهاج السلطة أسلوب «التظاهر المضادّ» كمنهج ثابت ومتصاعد سيدفع بالأوضاع إلى التدهور خلال الأسبوع الجاري. كذلك، قد تشرع السلطة في خطوات لامتصاص الغضب الشعبي عبر الإعلان عن «تطوّرات إيجابية» في عمل لجنة التحقيق التي شكّلتها حكومة محمد اشتية، كالإعلان عن توقيف مجموعة من عناصر الأمن المتّهمين بقتل الناشط بنات، أو إقالة مسؤولين بارزين كمحافظ الخليل أو نائب مدير الأمن الوقائي، اللذين تتّهمهما عائلة بنات بإعطاء التعليمات لاغتيال ابنها.