حين وصف جوزيف ستالين المدفعية بأنها «آلهة الحرب العالمية الثانية»، فإن آخر ما كان يقصده بالتأكيد هو مدافع «الهاون»، على رغم الأهمية التكتيكية الكبيرة لها في الحروب، إلّا أن لغة الحوار التي كانت سائدة في ستالينغراد آنذاك، تحكيها مدافع «الهاوتزر» الثقيلة، التي تُماثل نظيرتها في جيش الاحتلال الإسرائيلي اليوم. لكن، ومنذ حرب العام 2014 حتى معركة «سيف القدس»، تمكّنت المقاومة الفلسطينية من «تأليه» قذائف «الهاون» البدائية، جاعلةَ منها سلاحاً فاعلاً في الميدان. تلك هي نتيجة قرابة عشرين عاماً من التجربة والخطأ، يقول أبو مصعب، وهو ضابط المدفعية الميداني في «سرايا القدس»، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»: «لقد عُمّدت مدافع الهاون بدماء العشرات من الشهداء القادة والمجاهدين، الذين بذلوا حياتهم في سبيل تطويرها وتجويد أدائها منذ دخلت الخدمة كسلاح بدائي الصنع في منتصف الانتفاضة الثانية عام 2002». يحكي المتخرّج في تخصّص الرياضيات عن محطّات متعدّدة مرّ بها تطوير سلاح المدفعية، منذ كانت المدافع المتوافرة بعيار 60 ملم، وبارتداد مدفعي كبير يشتّت دقة الإصابة إلى مئات الأمتار في محيط الهدف، فضلاً عن خطورة التعامل مع المدافع سابقاً لكونها عرضة للانفجار. أمّا اليوم، فيَظهر سلاح «الهاون» بطابع تكتيكي فعّال جدّاً، بعدما استخدمته المقاومة في «سيف القدس» في استهداف الحشود العسكرية في «أشكول» في 18 أيار، وتسبّبت في مقتل جنديَّين اثنين وإصابة 14 آخرين. يتابع أبو مصعب موضحاً الخصوصية التي يتمتّع بها سلاح المدفعية اليوم، والتي جاءت نتاج التطوير الكبير على صعيد الدقّة النقطية التي تُحقّقها القذائف، وأيضاً الكثافة النارية الهائلة التي قصفت بها مختلف الفصائل الجنود المحتشدين على حدود القطاع بشكل متزامن. وقد تَطوّر أداء المقاومة في هذا التخصّص بعد دراسة التكنولوجيا التي كان يستخدمها العدو في تحديد الموقع الذي تنطلق منه القذائف خلال المعارك السابقة، وبعد استخلاص الدروس: «تَمكّنا من تربيض الهاون فوق الأرض وتحتها، بما لا يسمح لأجهزة المسح الراداري والجغرافي بتحديد مواقع المرابض بشكل دقيق». يكمل ضابط المدفعية الذي يشير محيط عينيه إلى أنه لم يغادر عشرينيات العمر: «صار بإمكاننا تقليص عدد الجنود المشاركين في عملية الإطلاق من خمسة إلى اثنين فقط، يكون واحد منهما فقط في محيط المدفع».
خرجت المقاومة بفصائلها كافة من الجولة الأخيرة بصفر خسائر بشرية في وحدات المدفعية

إضافة إلى ذلك، تُقدّم وحدات الرصد الأرضية والطائرات المُسيّرة تحديثاً مستمرّاً للأهداف الجديرة بالضرب. يستذكر الضابط الشاب: «في صبيحة يوم عيد الفطر (13 أيار)، تَوافرت لدى وحدة المدفعية معلومات دقيقة عن تحرّكات في محيط موقع كرم أبو سالم. وفي تمام الساعة الـ11 صباحاً، بدأت مرابض المدفعية بدكّ المنطقة وفق الإحداثيات المتوافرة، بقذائف الهاون. يومها، تحدّث الاحتلال عن حدث أمني خطير في المنطقة المستهدَفة، ظانّاً أن المقاومة استهدفت مركبة بصاروخ مُوجّه، ليتّضح لاحقاً أن قذيفة هاون سقطت على سيارة كانت تسير في المنطقة». وعلى نحو أكثر دقّة، يتحدّث ضابط «السرايا» عن استهداف تجمّع «أشكول» الذي استندت فيه الوحدات العاملة في الميدان، إلى المعلومات اللحظية التي كانت تُوفّرها المُسيّرات ووحدات الرصد الأرضية. استخدمت الوحدات المذكورة، يومها، نوعين من القذائف: الأولى صدمية تنفجر فور احتكاكها بالأجسام الصلبة، وبعد وجبة القصف الأولى، دكّت «السرايا» المنطقة نفسها بقذائف موقوتة، تنفجر بعد مدّة تراوح من دقيقة إلى خمس دقائق. كانت تلك الدقائق هي المدّة التي احتاج إليها الجنود للوصول إلى المكان المستهدف وتفقّده، وفور وصولهم انفجرت «الموقوتة» لتُحدث هذا الكمّ الكبير من الخسائر. وتتوافر لدى المقاومة عدّة عيارات من «الهاون» الأول (60 ملم بمدى يصل إلى كيلومترين)، والثاني (81 ملم بمدى يبلغ 6 كيلومترات)، والثالث وهو الأكثر فتكاً وتأثيراً (120 ملم بمدى 7 كيلومترات).

تكتيكات جديدة
غير أن قذائف «الهاون» لم تُؤدّ في هذه المعركة دور تشتيت الحشود والإضرار بها فقط، بل تخطّت مهمّتها ذلك إلى تعطيل رادارات منظومة «القبّة الحديدية»؛ إذ راكمت وحدات الرصد، خلال السنوات الماضية، معلومات وافية عن نقاط الرادار الخاصة بـ»القبّة»، والتي تكون عادة قريبة من الحدود، لتقوم وحدات المدفعية بدور فاعل في تعطيل عمل تلك النقاط، مُفسحةً الطريق أمام الصليات الصاروخية البعيدة المدى حتى تتجاوز صواريخ «القبّة»، على اعتبار أن إعادة تشغيل الرادار من جديد تحتاج إلى 60 دقيقة على أقلّ تقدير. هذا التكتيك، بحسب ما توضحه وحدة المدفعية، أعطى هامشاً واسعاً للمقاومة لكي تُحدّد ساعات إطلاق الصواريخ سلفاً، وتُحقّق وصولاً إلى المدن المستهدفة من دون اعتراض. كما ساهم «الهاون»، الذي لا تستطيع صواريخ «القبّة» التعامل معه بالنظر إلى سرعته التي تتجاوز سرعة الصاروخ بمراحل، في صناعة ما يُطلَق عليه عسكرياً: «العزل والتطويق بالنار»، وهو التكتيك الذي اتّبعته «كتائب القسام» في صناعة حزام ناري حول المنطقة التي استُهدفت فيها حافلة الجنود في «زيكيم» في اليوم الأخير من المعركة، حيث لم تسمح الرمايات النارية الكثيفة لسيّارات الإسعاف بالوصول إلى الحافلة لمدّة طويلة، الأمر الذي أشغل وحدات الجيش على نحو كبير، وسمح للمجموعة التي نفذت الهجوم بالانسحاب وتأمين سلاحها بأريحية بالغة.

المحاكاة نجحت
يقول أبو مصعب إن وحدات المدفعية تمتلك مئات المدافع، وعشرات الآلاف من مخزون القذائف المُصنَّعة محلّياً. أمّا كيف استطاعت الوصول إلى هذا المستوى، فيوضح أن «المقاومة حصلت على عدّة مدافع أصلية، ستاندر، مُصنّعة وفقاً للمعايير الدولية، ولمّا كان عدد ما حصلت عليه محدوداً، أجرت وحدات التصنيع فيها دراسات علمية دقيقة على المدافع المتوافرة، لجهة الخامات المُصنّعة منها وطبيعة المواد المستخدمة والمناظير ورافعات التوجيه، ونجحت في محاكات نماذج مطابقة لها، وبعد الآلاف من محاولات التجربة والخطأ، تمكّنت من الوصول إلى نسخ مطابقة لما هو دولي». يضيف ضابط المدفعية: «تتولّى وحدة خاصة بالتجريب فحص صلاحية القذائف والمدافع على نحو دوري، وتُقدّم نتائجها للوحدات العاملة، فيما تقوم وحدات التصنيع بتزويد سلاح المدفعية بما يَفقده من مخزون خلال جولات التصعيد والحروب. هذا الأمر وفّر لنا استدامة الكثافة النارية، والمحافظة على احتياطي المخزون الذي يؤهّلنا لخوض معركة طويلة».

خسائر صفرية
لكن أعظم ما تَحقّق وفق ما يراه ضباط المدفعية في «سرايا القدس»، هو تصفير الخسائر البشرية. ففي السابق، كان العاملون في هذا التخصّص، والذين يجري تدريبهم على مدار سنوات قبل الوصول إلى مرحلة الاحتراف، هم الأكثر عرضة للاستشهاد، لكن المقاومة بفصائلها كافة، خرجت من الجولة الأخيرة بصفر خسائر بشرية في وحدات المدفعية. صحيح أن هناك عدداً لا بأس به من المقاومين استشهدوا خلال المعركة، وكان الكثير منهم في تخصّص المدفعية، إلا أنهم لم يُستهدفوا خلال مهامّ قتالية مباشرة، بل جرى اغتيالهم في ظروف مدنية بحتة. والجدير ذكره، هنا، أن المقاطع المُصوَّرة التي نشرتها المقاومة أظهرت عناصر المدفعية وهم يؤدّون عملهم على نحو مريح، إذ تَجاوز عدد القذائف الذي يطلقها الجندي في كلّ وجبة، الثماني، وهو عدد كبير، يعكس مستوى التمكّن والأمان الذي يعيشه الجندي، على الرغم من تفعيل الاحتلال جميع عناصر التتبّع والمراقبة والمسح الشعاعي من الأرض والسماء. وهنا، يوضح أبو مصعب أن «مرابض المدفعية تمّ انتقاؤها بعناية فائقة، ووفقاً لظروف جغرافية تؤدي دوراً درعياً يسهم في توفير هامش أمان كبير، لا يسمح في أسوأ الأحوال إلّا بتحديد المحيط الجغرافي الواسع الذي انطلقت منه القذائف، وليس النقطة الدقيقة للمربض».